القائمة الرئيسية

الصفحات

حول العالم

 

من أدبيات الأديب السونغاوي إبراهيم هما ديكو



الغرض الاجتماعي في أدبيات إبراهيم ديكو(أديب سونغاي)

لا نزال مع الأديب الفذ الفقيد إبراهيم ديكو، ذلك الشاعر الذي من طبيعته استطاع أن يطرق جل الأغراض الأدبية التي نعرفها في الدرس العربي إن مدحا وإن فخرا، أو رثاء أو تناولا للشؤون الاجتماعية التي الغرض منها بناء الفرد المجتمعي وغرس الأخلاق النبيلة بغض النظر عن دعوة جماعة الفن للفن. ونحن في هذا المقام نريد الاطلاع على قضية من ضمن القضايا التي استعارها الأديب أهمية في عمله الإنتاجي.

فنقول: إن مذهب الفن للفن:  ويعرف بالبرناسية مذهب أدبي فلسفي لا ديني قام على معارضة الرومانسية من حيث أنها مذهب الذاتية في الشعر، وعرض عواطف الفرد الخاصة على الناس شعراً واتخاذه وسيلة للتعبير عن الذات، بينما تقوم البرناسية على اعتبار الفن غاية في ذاته لا وسيلة للتعبير عن الذات، وهي تهدف إلى جعل الشعر فناً موضوعيًّا همه استخراج الجمال من مظاهر الطبيعة أو إضفائه على تلك المظاهر، وترفض البرناسية التقيد سلفاً بأي عقيدة أو فكر أو أخلاق سابقة. ولكن هذا المذهب تلاقى مهاجمة عندما لوحظ عليه بعد انحرافه الكبير عن الحياة الواعية العاقلة من قبل بعض النقاد، أمثال ت.س. اليوت[1] الذي اتهم أصحابها بالخطأ وقصر النظر، وقرر أنه لابد من الالتزام للأديب أو الشاعر. وأن غاية الشعر والنقد تُلزم كل شاعر وناقد أن تكون الكتابة ذات نفع اجتماعي ما للقارئ.

ومن هنا لا نجد نتاج (ديكو) في جل أعماله إلا خدمة للمجتمع، والسعي إلى إعادة الوعي لدى المجتمع حول رموز تراثه  المقدسة، وتثبيت الهوية القومية، مما جعله في كثير من الأحايين يأخذ موضوع شعره من عادات المجتمع وتقاليده، والتي تغرس الشهامة والمروءة في الأجيال الناشئة. ويأتي موضوعه حول المروءة وطغيان حب المال على نفس أبناء الزمان، في المحل وتلبية الحاجة النفسية لدى المجتمع، فهذا موضوع حساس، وربما أثار ذلك في ذهنه ما لاحظه من فقدان هذه الخصلة النبيلة لدى الناشئين، الأمة التي عرفت بالكرامة، وحب الغير والتضحية في الدفاع عن الغير، وقد يجد البعض أني انتساب الكرامة إلى هذه الأمة مبالغ، ولكننا حسبما أدركناه، من العادات أنه لا يجد أحد منهم ضيفا وإلا ويتبادر إلى إكرامه بالقرى، والقرى من أفضل الطبائع التي افتخر بها العرب حتى حاتم الطائي، حين يفتخر،  يفتخر بهذه الخصلة:

إني لعف الفقر مشترك الغنى       وتارك شكلا لا يـــــــــــــوافقه شكلي

وشكلي شكل لا يقوم لمثله          من الناس إلا كل ذي نيقة مثلي

وأجعل مالي دون عرضي جنة      لنفسي وأستغني بما كان من فضل

* *

وإني لعبد الـضـيف مـادام ثـاويا     وما في إلا تلك من شيمة العـبـد  

من كل ما تقدم نجد أن أنشودة (ديكو) بموضوع (ألمنو ألمنو بجو نو كي فور: طغيان حب المال على أنفسهم هو الذي أضاعهم)  يفتتح بأسلوب الاستغراب، والاستفهام، منفزعا مما حدث للمجتمع من تغير جذري عن عاداتهم الطبيعية وتقاليديهم الإنسانية، فيقول:

أ ترون يا جماعة ما حدث لنا؟!

أ ترون يا جماعة ما وقع علينا؟!

ما هذه المصيبة التي أصابتنا؟!

لقد تغيرت مسيرة الدنيا، وطبائعنا

مهما تقلب الإنسان في الفضاء فإن مصيره إلى الأرض(طبعا هذا مثل)

أضاعهم حب المال والنهم وراءه

أين شرف الحر النبيل، ومكانته؟!

أين توجه حب صلة القرابة ورابطها الوثيق؟!

لقد تقلبت طبيعة الدنيا، فلم تعد يدركها الفهم

إذا قام العدل واستطاع الكرام من بسط المال

وقام الأمراء بالقضاء بالعدل دون ارتشاء بالمال

وقام الزوج الحسن بالعدل والرضى على زوجاته

وإذا قام الوالدان ورضيا بالإنجاب

فإن الدنيا مهما تقلبت في الفضاء ستنزل إلى الأرض وسترسخ عروقها في الأرض

ثم تنبت بالخيرات وتزهر ، لتثمر لنا فنجني خيراتها

لقد تغيرت طبيعة الدنيا، لقد تغيرت مسيرة الحياة

آها... إذا كنت تنظر إلى الأمام لتقوم بالأعمال الشنيعة

التفت إلى الوراء! الآلاف موجودون ممن أنت أفضل منهم بكثير.

فضلا أن تقوم بالتحايل، وتصنع الأكاذيب لتجمع الأموال

أتدري متى ما يأتي الله لوديعته!؟

لقد تغيرت طبيعة الدنيا، لقد تغيرت مسيرة الحياة

قبل أن يأتي اليوم الذي تتمنى فيه أن يعفوا عنك

لمَ لمْ تتفكر أيام كنت فوقُ، وتعمل الأعمال الشنيعة، وتتكبر وتتجبر

أو لم تكن تعلم في تلك الآونة أن الدنيا تغرُّك.

لقد تغيرت طبيعة الدنيا، لقد تغيرت مسيرة الحياة.

----------------------- وانتهى الأنشودة----------------

وكما نرى أن الرجل زاوج بين الزهديات والقضايا الاجتماعية، وهو من غلبة الفكر الديني عليه يرى أن مصلحة الأمة تقوم على المبادئ الدينية التي رسمها الدين الإسلامي.

وما نلاحظه أيضا أنه أخذ رموز المجتمع تلك العناصر التي بها تتم بناء المجتمع، وأشاد كلا منهم بمهمته في الحياة حتى يتمكن تحقيق صلاح المجتمع، مع الإشارة إلى الفساد الاجتماعي والأسباب الداعية إليه، وكذلك اقترح بعض العلاجات لهذا الداء الذي نزل بالمجتمع.

مع الأسلوب الشيق المتبع لديه من ربط عدة شورط بجواب واحد، حيث إن ذهن المتلقي سينتظره وهو يسرد الشروط وأفعالها بغية الوقوف على الجواب المتلقة بهذه الشروط.

تلك إضاءات لطيفة حول هذا العمل والباب مفتوح أمام من يريد التعمق أكثر في المجال.

 

ظاهرة التغريب:

مالا نو انغاكوي من نورا ملاّ نو انغاكوي: أين تذهب يا هذا إلى تذهب.

أين تذهب يا هذا أين تذهب يا هذا

أين تذهب إلى أين تذهب وتترك أهلك

أتريد أن تكون مثل المرأة التي تركها وقبل أن تعود وجدت له ثلاثة أولاد

أين تذهب يا هذا إلى تذهب

على الرجل أن يسعى في طلب الرزق، ويسعى طلب مال الدنيا

فإذا وجد فليرجع إلى الدار، مع أن البعض يذهبون ولا يرجعون

مهما مكثت في الماء، ولو قضيت سنة في النهر فإن ثيابك على الشاطئ

ولو مكثت شهرا في الماء، ولو قضيت سنة في النهر فإن ثيابك في انتظارك

فلا يمكن أن تضيع، ولا يمكن أن تتغير، ولا يمكن أن تعار، فهي لك وحدك.

 
الخطاب الاستعماري قراءة في نتاج إبراهيم ديكو: حامد

نعود من جديد إلى أديبنا إبراهيم ديكو...لنتصفح عن آثاره الفكرية الإبداعية...لنحصل على كنز نفيس لكل قارئ يعطي أهمية لتراثه الفكري...عجبا لهذا الرجل الفذ وعقليته العظيمة التي تنفّذ بها إلى أغوار هذه الكوامن الفكرية ...والتي تمكن بها أن يترك لنا مادة خامة صالحة أو مستجيبة لإجراء جل المناهج النقدية المعاصرة...فقد تحدثنا في حلقاتنا السابقة عن الجانب الاجتماعي من نتاجه الفكري وتحدثنا عن شيء من التراث الشعبي لديه...وما قضية السيدة مريم ببعيد وهي حكاية قيمة لعشاق النقد الثقافي لكونها تُظهر قيمة المرأة في هذا المجتمع الذي طالما وصم بالسطوة على البنات وغصب أحقيتهن في اختيار من يردن الزواج به، ملخص الحكاية: أن مريم هذه سيدة نبيلة تملك أمة تخمدها وقد وضعت ثلاثة  ألغازا مهرا لمن يستطيع فكها...ويمر جماعة من الرجل بدون نجاح إلا شاب يذهب إلى والديه يطلب منهما الدعاء ليتوجه إلى خوض هذا الغمار فينجح الشاب بفضل الله ثم بفضل دعاء والديه...وحتى ما ذكرناه عن الثور يدخل في هذا الباب النقد الثقافي...وربما يرى البعض أنني تطاولت في رفع قيمة الرجل ولكني أعتذر منهم أنه يستحق أن يبرز نتاجه لبني جنسه حتى لا يقال أننا لا نملك تراثا ثقافيا وهو في هذا الجانب خير من حافظ لنا عليه بأدواته اليسيرة...

لنعد إلى موضوعنا الخطاب الاستعماري أو نظرية ما بعد الاستعمار كما يحلو للبعض أن يسموه: نظرية تسلح بها كتاب العالم الثالث بعد الحرب العالمية الثانية، وخاصة كتاب آسيا وأفريقيا لمجابهة التمركز الغربي، وتقويض المقولات الفكرية الأوروبية والأمريكية تقويضا وتشتيتا وتأجيلا،  بآليات منهجية متداخلة: تفكيكية، وثقافية، وسياسية، وتاريخية، ومقارنة... ومن ثم، فنظرية "مابعد الاستعمار" هي حركة ثقافية مضادة ومقاومة، ظهرت في مرحلة "مابعد الحداثة" للوقوف في  وجه التغريب، والتهميش، والتعالي، والهيمنة الغربية المغلوطة.

وإن تأملنا أعمال ديكو نجده قد ترك لنا نموذجا عن هذا النوع من الخطاب... وذلك في قصة اعتقال الاستعمار لشباب المنطقة وإدخالهم في الجندية جبرا....يصور لنا ديكو تجبر المستعمرين وغطرستهم وسطوتهم على أهل المنطقة، حيث يبدون في معاملتهم مع الشعب كمن يملك حظيرة من الدواجن يأخذ منها كل صباح حسب حاجته....ويسرد لنا ديكو قصة(حامدو) :غادر حامدو مع زملائه من المنزل في الصباح إلى المرعى ...ورجعوا مساء فلم يرجع معهم حامدو فسالهم الولد عن ابنه حامدو...: أي بَني وأين حامدو؟ فقالوا له اعتقله النصارى( أي البيض المستعمرون) ...وعند ذلك هم الوالد الشيخ العجوز بالذهاب إلى النصاري ليشفع له في ابنه وربما إذا رأى حاله فهو عجوز عاجز لا يقدر حتى على المشي فضلا عن أن يستطيع القيام ببعض مهامه الحياتية...أن يشفق عليه ويطلق سراح ولده...فتوجه إلى قصر النصاري الوالي المستعمر...فلما وصل الشيخ إلى باب الدار...نهره الحراس ورفثوه  حتى سقط على الأرض...والوالي النصاري في الداخل يراه فأمر بتركه يصل إليه...فسأله عن حاجته...فقال له الشيخ: ابني حامدو الذي اخذتموه هو رجلي، وهو يدي، وهو عيني، أشفق لحالي وارحمني بإعادته إلي...فثار الوالي غضبا وزمجر وصاح...فقال متعجبا: أهذا ما يقوله هذا الجاهل!؟ فانهار عليه بالضرب، حتى سقط الشيخ أيضا على الأرض...فأمر الوالي النصاري بإبعاد الشيخ عن منظره...فنهض الشيخ واعصب عمامته ثم بحث عن حذائه...ثم تناول عصاه التي يتوكأ عليها لعجزه عن الاستقامة على ظهره. ثم أخذ سبيله إلى داره منشدا: جعلونا دواجن في حظيرة.

وهي في ملكية صاحبه يفعل بها ما يشاء.

ومتى ما أراد صاحبها يأخذ منها ويذبح.

وإذا لا يملك الإنسان حريته! سيرى كل شيء في حياته..

هذه هي الأبيات التي رددها الشيخ قافلا إلى داره...وهذه الكلمات تصور لنا عدم الامكانية، وعدم القدرة عن الدفاع عن الذات. تصوُّر الدواجن في الحظيرة يعطي دلالة واضحة عما يفعله الاستعمار بالشعوب المستعمرة. وما يبرزه تعاملهم مع الشعب  خير دليل على ذلك. لا رحمة في قلوبهم لهذه الشعوب، وإلا حال هذا الشيخ ـــــــ وما أكثرهم ـــــ يرثى لها فمن المفروض مساعدتهم وليس إهانتهم مع ضربهم...والغريب في الأمر أن معاملة عملاءهم أشد منهم أنفسهم، لأن الحراس الذي صدوا الطريق أمام الشيخ واستقبلوه بالضرب والزجر من أبناء الشعب ولكنهم أعميت أبصارهم فسيطر العنف على عقولهم...فلا يرون إلا ما يراه شيف(السيد الوالي)... ويبذلون جهدا في الحصول على رضاه، وإن كان على حساب اضطهاد بني جنسه...و يا أسفاه...و يا رحماه لأمتنا!!! ...وحال هؤلاء العمال ليست ببعيدة عن العمال الجدد الذين ينهبون خيرات الشعوب لصالح أسيادهم الذين ينصبونهم في رئاسة دولنا....!

تلك كانت جولة قصيرة في أعمال هذا الأديب الفذ الذي حفظ لنا على هذه الذكريات المرة...والتي يحاول المستعمر طمسها...ليكسب ودنا وهو ألد اللدود...ولله در المتنبي في الحذر من العدو(إذا رأيت نيوب اليث بارزة...فلا تظنن أن الليث مبتسم).

رثاء الأماكن في أدب سونغاي (باجي بي سينجي) نموذجا.


حكاية بانجي بي سينجي...أنه ثور غريب الطور في خلقه وخلقه بضم الخاء..وهو يشاكل بني آدم في تصرفاته...وكان من عادة الفلاتي الراعي للأبقاء أن ينهض مع ذنب السرحان من الفجر ليذهب بالأبقار إلى المرعى قبل طلوع الفجر ثم يرجع مع الضحى-( وتسمى هذه العملية في سونغاي: تارين)- ويحلب ما يحلب ثم يتركهم أو يوجههم إلى جهة المرعى فيعودعون إلى المرعى... ولكن هذا الثور كان يقوم بهذه كلها نيابة عن صاحبه...وكان بعد كل عتمة ياتي بجانب صاحبه فينام معه وينبهه حين يحين وقت (تارين) بل يذهب بالأبقار ويراعيها ويحرسها من كل مؤذ لا ذئب ولانمر ولا أسد...ثم يعيدها إلى البيت ويوقظ صاحبه....ولم يزل هذا دأبه حتى استشرف صاحبه على الدخول في عالم الشراكة لربط عقد الزواج ....
وكان من عادة الفلاتة في ذلك العهد أن من يتزوج في المرة الأولى قرناؤه يلزمونه بعجل لا مثيل له في حقله من الأبقار ...فوافق أن هؤلاء القرناء منهم من يدغن حقدا على الرجل ويريد أن ينتقم منه بالتخلص من ثوره الآدمي....
وفي المساء ترافق الشباب إلى الأبقار ليتخاروا ما يناسبهم فوقع اختيارهم على باجي بي سينجي بتآمر فيما بينهم قبل وصولهم....فساومهم الرجل بكل شيء إن أرادوا أي عدد من الأبقار بدل هذا الثور....فقالوا أبدا! لا نقبل إلا ما اخترناه....😓
وفي النهاية تنازل الرجل،وقال: لا تنقل نساء الفلاتيات عني أنني أفضح يوم زواجي فلن يلحق بي هذا العار-(العبارة: لن تستورد نساء الفلاتيات بحكايتي أني فُضحت يوم الزواج...بما أن التقاء الفتيات تكون غالبا عند استيراد الماء، وهنالك تتبادل المستجدات في القرية...ويعتبر عارا على الشخص أن تعجز عن تنفيذ ما هو معروف في العادة)- وطلب منهم ألا يحملوه على ذبحه لأن هذا الثور بمثابة أخ له....فقالوا أبدا! لن يذبحه إلا صاحبه...فحاول كل المحاولات بدون نجاح....فتقدم على التنفيذ...
فلما تلّٓه للجبين...ووضع السيف على عنقه..وقف في بكاء وتأسف وتحسر يعدد الوديان التي كان الثور يزاولها في متابعة الأبقار ورعايتها.....ليخبرها أن باجو سيموت اليوم.
يرثي الأماكن...ويرثي نفسها أيضا لأنه بهلاك الثور سينفد كل شيء وستزول هذه الأبقار كأن لم تكن ....اللهم اكفنا شر الحاقدين...ومما ورد في شعر الرجل
أيا وادي بَالِيتٓا ألم تعرف أن العير قد التحق بباجو..
باجو الذي يخافه الأسود...باجو الذي تفر منه الذئاب
لقد هلك باجو! فمن يوقظني حين موعد السرى إلى المرعى. فمن يرافق الأبقار...فمن فمن ...لقد هلك باجو...ثم يذبحه وتنتهي الحكاية بدرامة أصبحت شبه أسطورة ولكنها حقيقة.
هي حكاية يمكن أن تحتوي على رواية لأرباب الأقلام ممن وفق في هذا المجال....وتجدون مع إبراهيم ديكو في أغانيه الشعبية...


الشجرة رمز المدح في الأدبيات الإفريقية: إبراهيم ديكو نموذجا.

المدح: هو إثبات الفضائل المعروفة لدى مجتمع ما في حقّ من يقال فيه المدح؛ وذلك للثّناء على الممدوح وإثبات فضله ومكانته في ذلك المجتمع الذي ينتمي إليه. ويعدّد قدامة بن جعفر بعض المُثل والمعاني النّفسية التي يمكن أن يتفاضل النّاس فيها على بعضهم البعض فيحصرها في أربعة أوصاف "العقل والشجاعة، والعدل، والعفّة"[2][3]، فهو يرى أن هذه الصفات الأربعة هي التي يستحق للنّاس أن يتفاضلوا فيها ومن يُمدح ينبغي أن يأتي بقدر منها إن لم يجمعها كاملة فعلى قدر مما يجعله مستحقا لنسب الفضل إليه، لذلك يردف قائلا: إنّ المادح "بهذه الأربعة الخصال مصيب والمادح بغيرها مخطئ "[4][5]. ولكن من الأفضل أن نلقي بالا للتطوّر الفكري عبر العصور والذي قد يُقلِّب بعض المفاهيم ويجعل ما كان رذيلا في زمن ما مفضلا في زمن آخر "فإذا كان لكلّ عصر ذوقه الخاصّ، فإنّ تسجيل هذا الذوق لا يكون إلا في تلك الجماليات التي تروّج في هذا العصر"[6][7]، وإنّ تقييد الصفات الفاضلة في هذه الأربعة فقط، يحتاج إلى إعادة النظر! وإنما ينبغي أن يترك الأمر للمعايير التي يحتكم إليها العصر الذي يعيش فيه الشّاعر وممدوحه أن يتحكّم في تصويب الفضائل وانحطاط بعضها عن قمّة الأفضليّة[8][9].

والمدح في الشعر العربي أو الأدب العربي هو سرد المواصفات الحسنة عن الممدوح سعيا إلى إبراز الممدوح في صورة وهيئة حسنة...والهدف منه أحيانا يكون للتكسب من خيرات الممدوح وهو أغلب وقد يكون لمجرد رفع مكانة الممدوح...وعندما يسعى الشاعر في هذا الغرض يستعين بعناصر عدة من أهمها التشبيه بالماء: البحر أو المطر...هو كالبحر في عطائه، فالبحر يعطي ولا ينفد بل لا يشعر من نقص شيء منه. وهو كالمطر...بل المطر أحيانا يشعر بالحياء لعجزه عن محاكاة الممدوح. ولا نريد إطلاق الحكم في هذا الموقف ولكن الأغلب يأتي من هذا الباب...

وعندما نلتفت إلى أدبيات إفريقية نجد أن المدح يأخذ منحى آخر...وهو التشبيه بالشجرة...أو بتعداد أسرة الممدوح وإن كنا لا نعدم هذا في الشعر العربي إلا أن الفارق بينهما أن الشعر العربي يكتفي بتعداد نسب الممدوح...بينما الأدبيات الإفريقية تضيف إلى تعداد النسب  أسرة الممدوح كأن يقولوا زوج فلان أو زوجة فلان...وأخ أو أخت فلان...وشيء من هذا القبيل.

ولنعد إلى رمزية الشجرة في أدبيات إبراهيم ديكو...مثلا يمدح شخصا:

آباء محمد أشجار.

الشجرة التي تنبت وتثمر.

 أو الشجرة التي تنبت وتصنع بالفيء ظلا.

نجد في هذه الملاحظة تحقيق أدبية عالمية...حيث كل منها يستخدم رمزا عالميا أو الإيحاء إلى ذلك الرمز. وهو الماء رمز الحياة...الشجرة لها ثمر وثمرها رمز للحياة ..والظل أيضا رمز للراحة...ولكن الشجرة لا تكون إلا بوجود الماء. يقول عز الدين إسماعيل: "فالرمز الشعري مرتبط كل الارتباط بالتجربة الشعورية التي يعانيها الشاعر، والتي تمنح الأشياء مغزى خاصا. فعندما يستخدم لدالشاعر كلمات مثل: البحر، الريح، القمر...فإنه يستخدم عندئذ كلمات ذات دلالة رمزية.."[10][11]

وقد قيل إن كل قوم يستخدم في تراثه الرموز التي توصل إليها وعرفها في حياته الاجتماعية والثقافية...وإن كنا لا ننكر فضل الماء ولكن يبدو أن العناية بالشجرة أكثر من الماء...أو أنهم لم يدركوا الروح الفنية في الماء...فما أدركوه وأدركوا قيمته أذاعوا بفضله...ويظهر: ذلك في مكان آخر حيث يتغنى إبراهيم ديكو بالقحط أو الجدب. وفيه يشيد بفضل الشجرة، وأن عدم الشجرة في بيئة ما لا يبشر بخير. وربما ينسى أن زوال القحط واخضرار الشجرة لا يكون إلا بالماء. اللهم إلا أن الجامع الروحي بين الشجرة والماء في وجه المدح هو العطاء المتمثل في كل واحد منهما، عطاء الحياة بالثمار والظل المتمثل في الشجرة وتحقيق الحياة في الماء الذي رمز للحياة كما هو في الموروث الثقافي والديني.

وعليه نقول فإن المدح بالشجرة مدح، يحتاج إلى إعادة النظر والحفر في خلفية ثقافية للأديب الذي يستخدمها رمزا فنيا في نتاجه. ولكننا نعذر الأديب أنه لا ينطلق إلا مما توفره له حياته الاجتماعية "فرصيد النص الأدبي: لا يتكون فقط من معايير اجتماعية وثقافية؛ فهو يضم عناصر أدب الماضي بكل تراثه مع تلك المعايير..."[12][13]. فإذا كانت قيمة الرمز تكتسب من التجربة الشعورية فإنه لا تفاوت بين الرموز إذ المعول في ذلك على استكشاف الشاعر العلاقات الحية التي تربط الشيء بغيره من الأشياء. وأديبنا عرف تلك العلاقة بحيث أضفى على الرمز تجربته الخاصة التي تعطي فهم العطاء وتحقيق الحياة الجامعة بين الرمز والممدوح.

وعليه ونرجو ممن يأتوا بعدهم من الأدباء أن يدققوا في اختيار الرموز مما لها معنى وقيمة للإنسانية، والفنية أولا...وكنت وددت أن أنبه إخواني الشعراء أن ينطلقوا عن مبدأ إنساني وعن فلسفة في الحياة...وليحذروا كل الحذر من جعل نتاجهم الفني نتاج المناسبات...لأن فكرة المناسبات تجعل النتاج عقيما ويتكرر في نفسها ولا تعيد إلا الشيء نفسه... ولا عليه أن ينتظر مناسبة لأن ينتج بل ينبغي أن يعيش الأديب عيش الفنان المرهف الشعور، الذي يرى من الحياة ما  لا يراه الإنسان العادي غير االمتمع بعقل فني. وعندما ينطلق الشاعر من فلسفته في الحياة يبني فكرته وتصوره عن الحياة...وفي ذلك كل ما ينتجه يكون عن ذاكرة فنية وتكون له قيمة فنية...فإننا نريد من الأديب أن يشعر قبل أن نشعر نحن الجمهور، وإذا انتظرنا حتى نشعر فلا فرق بيننا إذا...ملاحظة لطيفة... والله الموفق للجميع.



[1] توماس ستيرنز إليوتت. س. إليوت (بالإنكليزية: Thomas Stearns Eliot شاعر ومسرحي وناقد أدبي حائزٌ على جائزة نوبل في الأدب في1948. وُلد في 26 سبتمبر 1888 وتوفي 4 يناير 1965. كتب قصائدأغنية حب جي. ألفرد بروفروك، الأرض اليباب، الرجال الجوف، أربعاء الرماد، والرباعيات الأربع. من مسرحياتهجريمة في الكاتدرائية وحفلة كوكتيل. كما أنه كاتب مقالة "التقليد والموهبة الفردية". وُلد إليوت في الولايات المتحدة الأمريكية وانتقل إلى المملكة المتحدة في 1914، ثم أصبح أحد الرعايا البريطانيين في 1927.

 

[2] أبو الفرج، قدامة ابن جعفر: نقد الشعر،   ص 96.

[3] أبو الفرج، قدامة ابن جعفر: نقد الشعر،   ص 96.

[4] المرجع نفسه.

 

[5] المرجع نفسه.

[6] إسماعيل، عزالدين: الأسس الجمالية في النقد العربي: عرض وتفسير، ومقارنة، طبعة1412هـ/1992م، دار الفكر العربي-القاهرة. ص 26.

 

[7] إسماعيل، عزالدين: الأسس الجمالية في النقد العربي: عرض وتفسير، ومقارنة، طبعة1412هـ/1992م، دار الفكر العربي-القاهرة. ص 26.

[8] "ذلك أن كلّ حقبة تعرف هيمنة رمزية تحدد ما نوع القيم الذي يجب أن يسود" ينظر: جيران، عبد الرحيم: سراب النظرية، الطبعة الأولى 2013م، دار الكتب الجديد المتحدة، بيروت-لبنان. ص151.

 

[9]  "ذلك أن كلّ حقبة تعرف هيمنة رمزية تحدد ما نوع القيم الذي يجب أن يسود" ينظر: جيران، عبد الرحيم: سراب النظرية، الطبعة الأولى 2013م، دار الكتب الجديد المتحدة، بيروت-لبنان. ص151.

[10] إسماعيل، عز الدين: الشعر العربي المعاصر: قضاياه، وظواهره الفنية والمعنوية، الطبعة الخامسة1994م، المكتبة الأكاديمية، القاهرة- مصر. ص١٧١-١٧٢

 

[11]  إسماعيل، عز الدين: الشعر العربي المعاصر: قضاياه، وظواهره الفنية والمعنوية، الطبعة الخامسة1994م، المكتبة الأكاديمية، القاهرة- مصر. ص١٧١-١٧٢

[12] إبراهيم، عبد الله: السردية العربية الحديثة: تفكيك الخطاب الاستعماري، وإعادة تفسير النشأة، الطبعة الأولى:2013م، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت- لبنان،  ص٧٣.

 

[13]  إبراهيم، عبد الله: السردية العربية الحديثة: تفكيك الخطاب الاستعماري، وإعادة تفسير النشأة، الطبعة الأولى:2013م، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت- لبنان،  ص٧٣.

 

 

 

 

تعليقات