القائمة الرئيسية

الصفحات

حول العالم

الصراع اللغوي طبيعته أسبابه وتأثيراته

الصراع اللغوي طبيعته أسبابه وتأثيراته



  أكد اللغويون بأن تطور أي لغة من اللغات مشروط باحتكاكه بغيره من اللغات، ذلك أن تأثره بلغات مجاورة يلعب دورًا هامًا في تطوره، وقد ذهب بعض اللغويين إلى القول بأنه لا توجد لغة متطورة لم تختلط بغيرها، وعند الاحتكاك بين لغتين يحدث تنازع بينهما والذي يؤدي إلى تغلب إحدى اللغتين على الأخرى والقضاء عليها، ويسمى بــ" الصراع اللغوي"، وسيتناول هذا البحث قضية "الصراع اللغوي" مبينًا أسبابه وأحواله.


     يطرأ على اللغة ما يطرأ على الكائنات الحية من صراع وتنازع، لأن اللغة كائن اجتماعي لا يقوم المجتمع إلا بها، وقد يتجاور لغتان في مجتمع ما فتتأثر كل واحدة منها بالأخرى، ويؤدي ذلك إلى الصراع بينهما إلى أن يتغلب إحدى اللغتين على الأخرى فتكون اللغة المنتصرة، وتكون الأخرى اللغة المغلوبة.

مفهوم الصراع اللغوي

ينطلق مفهوم الصراع اللغوي من ارتباطه باللغة التي تتأثر سلبا أو إيجابا بالعوامل المحيطة بها وما يطرأ عليها من تغيرات القوة أو الضعف في مرحلة من مراحل الحياة التي تمر بها[1]. والصراع اللغوي "خلق شعور قومي وإيجاد روح الانتماء والولاء للغة ما ضد أخرى"[2].

المحور الأول: أساب الصراع اللغوي وعوامله

يمكن تقسيم عوامل الصراع اللغوي إلى قسمين كبيرين هما: عوامل رئيسة أو أساسية وعوامل ثانوية.

أما العوامل الرئيسة

فهي التي ينجم عنها صراع جدي، أو تؤدي إلى نتائج ذي بال، وهي:[3]
نزوح العناصر الأجنبية الناطقة بلغة أخرى إلى بلد لا تنطق بهذه اللغة.

أن يتجاور شعبان مختلفا اللغة ويتبادلان المنافع بينهما ويتاح لأفرادهما فرص للاحتكاك المادي والثقافي.

   وأما العوامل الثانوية:

 فهي التي تتيح فرص الاحتكاك بين اللغات، لكنها أقل شأنا من العاملين السابقين الرئيسين؛ إذ ليس منها ما ينجم عنه صراع جدي، أو يؤدي إلى نتائج ذات بال، وهي[4]:

    اشتباك شعبين مختلفي اللغة أو شعوب مختلفة اللغات في حرب طويلة الأمد، وذلك أن طول الاحتكاك بين الشعوب المتحاربة ينقل إلى لغة كل شعب منها آثارا من لغات الشعوب الأخرى، فاحتكاك الألمانية والفرنسية والانجليزية في الحربين العالميتين الأخيرتين قد نقل إلى كل لغة منها مفردات من اللغتين الأخيرتين، وحروب فرنسا مع إيطالية قد نقلت كثيرا من الكلمات المتعلقة بشئون الحرب والفنون الجميلة إلى الفرنسية، وغير ذلك من الأمور التي كانت إيطاليا أوسع ثروة فيها من اللغة الفرنسية، كما نقلت إلى الإيطالية عددا غير يسير من الكلمات الفرنسية. والحروب الصليبية قد نقلت إلى اللغات الأوروبية كثيرا من مفردات اللغة العربية.

  توثق العلاقات التجارية بين شعبين مختلفي اللغات، وذلك أن منتجات كل شعب منها تحمل معها أسماءها الأصلية، فتنتشر تلك الأسماء بين أفراد الشعب الآخر وتمتزج بلغته.

   توثق العلاقات الثقافية بين شعبين مختلفي اللغة، فتتأثر كل منهما بثقافة الآخر، فالامتزاج الجنسي بين العرب والفرس أدى إلى التلاقح الثقافي بينهما فدخلت في اللغة العربية كثير من الكلمات الفارسية، كما قلد العرب أساليب الفرس في الكتابة.

  وعلاقة هذه العوامل بتطور اللغة وارتقائها أشدّ من علاقتها بالصراع بين اللغات، حيث إنها تتيح للغات فرص الاقتباس من بعضها البعض بدون صراع جدّي، أو تحمل إحداهما على محاولة التغلب على الأخرى.

المحور الثاني: طبيعة الصراع اللغوي وتأثيراته

فقد سبق أن أشار الباحث في المحور الأول إلى عاملين رئيسين للصراع اللغوي وهما[5]:
 نزوح العناصر الأجنبية الناطقة بلغة أخرى إلى بلد لا تنطق بهذه اللغة.

أن يتجاور شعبان مختلفا اللغة ويتبادلان المنافع بينهما وتتاح لأفرادهما فرص للاحتكاك المادي والثقافي.

أولا: طبيعة الصراع في العامل الأول وتأثيراته

أما العامل الأول فسببه الاستعمار أو الحرب أو الهجرة، فينزح إلى البلد عنصر أجنبي ينطق بغير لغة أهلها، ومن هنا يحدث صراع بين اللغتين ينتهي إلى إحدى نتيجتين: إما أن تنتصر إحدى اللغتين على أخرى فتصبح لغة جميع السكان، وإما لا تقوى إحدى اللغتين على أخرى فتعيشان جنبًا لجنب[6]

انتصار إحدى اللغتين على الأخرى وحالاته

وتتغلب إحدى اللغتين المتصارعتين على أخرى في حالتين:
إذا اتفقت اللغتين في قلة الحضارة وانحطاط الثقافة، ثم زاد عدد أفراد إحداهما على الأخرى ففي هذه الحالة تتغلب اللغة الأكثر عددا ( ويحدث هذا إذا كانت اللغتين من فصيلة واحدة أو فصيلتين متقاربتين)، ومثاله: عندما نزح الإنجليز السكسونيين من أواسط أوروبا إلى انجلترا تغلبت على اللغة السلتية لكثرة عددهم، وكلتا اللغتين متفقتين في قلة الحضارة وانحطاط الثقافة، وتنتميان إلى فصيلة واحدة وهي الهندية الأوروبية[7].

إذا كان إحدى اللغتين أرقى حضارة وثقافة وأشد بأسًا وأوسع نفوذًا من الأخرى، والأمثلة على ذلك كثيرة منها: تغلب اللغة العربية على كثير من اللغات السامية الأخرى في آسيا وإفريقيا، كاللغة البربرية والقبطية والكوشيتية، فأصبحت اللغة العربية لغة الحديث والكتابة في معظم مناطق شبه الجزيرة العربية[8].

عدم تغلب إحدى اللغتين على الأخرى وحالاته

ولا تتغلب إحدى اللغتين المتصارعتين على الأخرى في حالتين:

إذا كان اللغتان راقيتان في الحضارة والثقافة، ومثاله: أن اللاتينية لم تتمكن من التغلب على اللغة الإغريقية مع أنها لغة الشعب، لأن للإغريق حضارة عريقة وثقافة واسعة ولغة راقية، ولم تتمكن اللغة العربية من التغلب على اللغة الفارسية على الرغم من فتح العرب لبلاد فارس وبقائها على سلطانهم زمنًا طويلًا، لأن الشعب العربي لم يكن إذ ذاك أرقى حضارة وثقافة من الشعب الفارسي[9].

إذا كانت اللغتان لا تنتميان إلى فصيلة واحدة، مثاله: لم تتغلب العربية على الفارسية لأن العربية من الفصيلة السامية والفارسية من الفصيلة الهندية الأوروبية، وكذلك نجد أن اللغة التركية لم تتغلب على لغات الأمم التي كانت خاضعة لها لأنها من الفصيلة الطورانية، واللغات التي تخضع لها من الفصيلة السامية- الحامية- أو الهندية الأوروبية[10].

ولكن عدم تغلب إحدى اللغتين لا يمنع من التأثر والتأثير، فقد يتأثر كل منهما بالأخرى[11].

ثانيا: طبيعة الصراع في العامل الثاني وتأثيراته

وأما العامل الثاني (تجاور شعبين مختلفي اللغة) فيتيح فرصًا لاحتكاك اللغتين فتشتبكان في صراع حاد ينتهي إلى إحدى نتيجتين: إما أن تنتصر إحداهما، وإما لا تقوى إحداهما على الأخرى فتعيشان جنبًا لجنب[12].

وتتغلب إحدى اللغتين في حالتين:

  إذا كان عدد الناطقين بإحداهما كبير ولم تتفوق إحدى اللغتين على الأخرى في الحضارة والثقافة،  ومثاله: سيطرة اللغة الألمانية على مساحة واسعة من المناطق المجاورة لها بأوروبا الوسطى من سويسرا وسلوفاكيا والنمسا، وقضائها على اللهجات الأولى لهذه الدول[13].

إذا كانت إحدى اللغتين أقوى من الأخرى وأرقى منها حضارة وثقافة، ومثاله: ما حدث مع اللغة السلتية بإيرلندا وويلز واسكتلندا من الانهزام أمام اللغة الإنجليزية لأنها تجاورها[14].

   وأما عدم تمكن إحداهما على التغلب فيحدث فيما عدا الحالتين المشار إليهما، ولها أمثلة كثيرة منها: أن الجوار بين فرنسا وانجلترا وألمانيا وإسبانيا والبرتغال لم يؤد إلى تغلب لغة شعب على أخرى.

ولا يمنع عدم تأثر إحداهما على الأخرى من التأثر والتأثير، فالإنجليزية والفرنسية مثلًا تتقارضان الكلمات فيما بينهما.

ثالثا: مراحل انحلال اللغة المغلوبة

  الصراع اللغوي هو الذي يقضي على لغة من اللغات أو لهجة من اللهجات، ولا يمكن تحديد زمن هذ الصراع تحديدا تاما إلا عند النظر إلى الظروف المحيطة باللغة المقهورة، ومقدار ما فيها من الحيوية والمقاومة[15].

ولكن تغلب إحدى اللغتين على الأخرى في الصراع لا تتم دفعة واحدة قبل أن يمر بمراحل تساعد على انحلال اللغة المقهورة وتؤدي إلى القضاء عليها:[16]

  المرحلة الأولى:  

    تطغى مفردات اللغة المنتصرة وتحل محل مفردات اللغة المقهورة شيئًا فشيئًا، وتكثر هذه الكلمات أو تقل تبعًا للمقاومة التي تبديها اللغة المقهورة، فاللغة البربرية مثلًا لم تترك في اللغة العربية المنتصرة إلا كلمات قليلة، وإذا كان الصراع شديدًا فإن اللغة المقهورة قد تحتفظ بكلمات كثيرة تدخل في اللغة المنتصرة أو الغالبة.

المرحلة الثانية: 

تتغير مخارج الأصوات أو يقترب النطق بها على صورة تطابق أو تقارب الصورة التي هي عليها في اللغة المنتصرة.

المرحلة الثالثة: 

تفرض اللغة المنتصرة قواعدها وقوانينها اللغوية الخاصة بالجمل والتراكيب، وأنظمتها في الكلام على اللغة المغلوبة، وبهذا تزول معالم اللغة المقهورة.

المحور الثالث: نماذج الصراع اللغوي في تاريخ اللغات

الصراع اللغوي بين اللغة السومرية واللغة الأكادية

   اعتلى الأقوام الأكادية عرش الحكم في العراق، وقام بذلك أول سلالة سامية حاكمة بزعامة سرجون الأول، فبدأ عصر جديد تبدل جذريا من الناحية القومية واللغوية والسياسية، فأصبحت اللغة الأكادية اللغة الرسمية للبلاد إلى جانب اللغة السومرية، فكانت اللغة السومرية في المرتبة الثانية والأكادية في المرتبة الأولى في كتابة النصوص والقوانين الصادرة عن القصر الملكي، ودخلت اللغة الأكادية عصرا جديدا من استخدامها لتدوين النصوص التاريخية فضلا عن المعاملات والمراسلات اليومية، بينما تقلص استخدام اللغة السومرية وتدنت للمرتبة الثانية، حيث اقتصر استخدامها على كتابة نصوص معينة من الحياة كالإدارة وبعض الآداب والتراتيل الدينية، وقد أخذ استخدام اللغة الأكادية يزداد مع ازدياد أعداد الأكاديين واتساع نفوذهم، ومن هنا بدأ الصراع بين اللغتين الأكادية والسومرية[17].

   وكان الأكاديون أكثر عددا ونفوذا ولكنهم أقل حضارة من السومريين، بينما كان السومريون أرقى من الأكاديين في مظاهر الحضارة وأكثر إبداعا، وكما أن اللغتين لا تنتميان إلى عائلة لغوية واحدة، حيث تنتمي الأكادية إلى عائلة اللغات السامية بينما تنتمي السومرية إلى عائلة لغوية غير معروفة الأصل، مما جعل الصراع بين اللغتين صراعا طويل الأمد[18].

    وحسب قوانين الصراع اللغوي فإن الصراع بين اللغتين اللتين لا تنتميان إلى عائلة لغوية واحدة يكون صراعا طويل الأمد قد يستمر إلى عدة قرون، كما أن اللغة التي تخرج من هذا الصراع منتصرا ينالها الكثير من التحريف[19]، فلم تتمكن إحدى اللغتين من التغلب على الأخرى فساد ازدواج لغوي استمر أكثر من ستة قرون[20].

    ومع قيام سلالة بابل الأولى حلّت الأكادية محل السومرية حتى في النصوص الأدبية، ونزح أقوام جديدة إلى المنطقة الأكادية تتكلم بلغة شبيهة بالأكادية وهي الأقوام الأمورية، فتغلب الأكادية أخيرا على اللغة السومرية، ولكن احتُفظ بالنصوص السومرية على أنها جملة من الموروث الأدبي، وحافظ الكتبة عليها وعلى استنساخها في العصور التالية[21].

الصراع بين الآرامية والأكادية

   انتشرت اللغة الآرامية انتشارا واسعا في معظم أنحاء الشرق الأدنى القديم بفضل النشاط التجاري الواسع الذي تميز به التجار الآراميون الرحل، إضافة إلى سهولة استخدام خطها الأبجدي البسيط في الكتابة. وقد أخذت اللغة الآرامية في أواخر القرن التاسع قبل الميلاد تتسع تدريجيا وتنتشر، وأخذت تحتل مكان الصدارة وتقتحم معاقل اللغات، ففي بلاد الرافدين أخذت تقتحم على معاقل اللغة الأكادية؛ إذ بدأت النصوص الإدارية والتذكارية تكتب باللغة الآرامية وخطها البسيط على حساب اللغة الأكادية وخطها المعقّد. واختفى استخدام الطين مادة أساسية للكتابة مع الأكادية، في مقابل انتشار استخدام الرقع والجلود والورق البردي الذي يكتب عليه بالحبر مع الآرامية[22].

  وفي حدود منتصف القرن الرابع، قضت اللغة الآرامية على الأكادية، ولكنها بقيت مستخدمة لعدة قرون في بعض الأوساط لغة كتابة وأدب ودين حتى قبيل الميلاد المسيحي[23]

الصراع بين الآرامية واللغة العربية

  اقتحمت اللغة العربية معاقل الآرامية حتى قضت عليها في الميدانين الغربي والشرقي من المناطق التي انتشرت فيها اللهجات الآرامية[24].

    ففي الغرب انقرضت اللغة الآرامية بعد الفتح العربي، وانتقلت من لغة تخاطب في معظم مناطق سوريا وفلسطين إلى لغة كتابة وأدب ودين، ولكن ظلت في بعض المناطق الجبلية في بلاد لبنان وما إليها لغة تخاطب حتى أواخر القرن السابع عشر بعد الميلاد، ولطول الصراع بين اللغتين في هذه المناطق أصيب اللغة العربية كثير من التحريف، وبقي في لهجات العربية لهذه المنطقة إلى العصر الحاضر كثير من لهجاتهم الآرامية القديمة[25].

   وفي الشرق قاومت اللغة العربية مختلف اللهجات الآرامية منها السريانية، وانتهى بتغلب العربية عليها كما تغلبت على أخواتها في الغرب، وفي أواخر القرن السابع الميلادي انقرضت الآرامية الشرقية من لغات التخاطب في هذه المناطق، وإن بقيت السريانية لغة كتابة وأدب ودين في كثير من الأوساط حتى القرن الرابع عشر الميلادي[26].

  نلاحظ أن اللغة العربية من خلال صراعها مع الآرامية توفرت لها عوامل الانتصار والتغلب منها:

  أنها أرقى حضارة وثقافة وأقوى سلطانا وأوسع نفوذا.
استمرار غلبتها على الآرامية مدة طويلة.
امتزاجها بالأفراد الآرامية.
انتمائها مع الآرامية إلى فصيلة لغوية واحدة.

الصراع بين اللغة العربية والهوسا

  فقد سبق أن أشار الباحث إلى أن الصراع اللغوي يمكن تقسيمه إلى قسمين كبيرين[27]:

فالقسم الأول: 

هي العوامل التي تؤدي إلى صراع حاد وجدّي ينجم عنه تغلب لغة على أخرى، وهي العوامل الرئيسة.

أما القسم الثاني:

 فيتمثل في العوامل التي تتيح فرص الاحتكاك بين اللغات ولا ينجم عنها صراع جدي كما لا تؤدي إلى نتائج ذي بال، وهي العوامل الثانوية.

   وعلاقة هذه العوامل بتطور اللغة وارتقائها أشدّ من علاقتها بالصراع بين اللغات، حيث تتيح اللغات فرص الاقتباس من بعضها البعض دون صراع جدّي أو تحمل أحدهما على التغلب على الأخرى[28].

   فمن تلك العوامل الثانوية توثّق العلاقات الثقافية بين شعبين مختلفي اللغات، ويبدو أن الصراع بين اللغة العربية والهوسا تصنف من قبيل هذا الصراع؛ إذ تعدّ لغة الهوسا من اللغات الإفريقية القليلة التي لها علاقة متميزة ومتنوعة مع العربية[29]، وتصنف تلكم العلاقة إلى ثلاث مستويات:
علاقة الانتماء إلى أسرة لغوية واحدة، وهي أسرة الأفرو آسيوية[30].

   علاقة الاتصال المباشر حيث يعيش متحدثوها في مكان واحد كما الحال في السودان، وكما أشارت بعض المصادر التاريخية إلى استقرار العرب في مدينتي كانو وكاتسينا (شمال نيجيريا الحالية) منذ القرن الخامس عشر في شكل أفراد ومجموعات، وأن العرب قد استقروا في بحيرة تشاد (نيجيريا وتشاد والكميرون) منذ أمد بعيد، إلا أن هؤلاء العرب لم يؤثروا على الأوضاع الاجتماعية في الأماكن التي استقروا فيها بتعلمهم اللغات السائدة في تلك الأماكن وتواصلهم بها[31].

علاقة الاتصال غير المباشر:

   وهو الاتصال الذي يحدث خلال التقاليد الأدبية، بواسطة الكلمة المكتوبة دون أن يعيش متحدثوا هذه اللغات في مكان واحد، والأثر الحقيقي للغة العربية على الهوسا في إطار الاتصال غير المباشر بين اللغتين في غرب إفريقيا على وجه العموم وفي بلاد الهوسا على وجه الخصوص. إن تاريخ اللغة العربية في بلاد الهوسا مرتبط ارتباطا وثيقا بانتشار الإسلام في تلك البقاع، وأن الهوسا أنفسهم ينظرون إلى اللغة العربية وجهين لعملة واحدة[32].

     وبما أن الإسلام مرتبط بشكل كبير باللغة العربية حيث نزل القرآن الكريم بها، تعلق الهوسويون بها وتعلموها، فغدت لغة الهوسا متأثرة باللغة العربية من عدة نواح. وقد اتبع (hisket) المنهج التاريخي في تحديد دخول الكلمات العربية في لغة الهوسا فيردها إلى ما بين سنة 1349 وسنة 1385، ويرى أن أول ما دخل في الهوسا من كلمات العربية هي مصطلحات الدين والفروسية[33]

    ولم يقف تأثير اللغة العربية على الهوسا في مجال المفردات فقطـ، بل امتدّ إلى الأدب حيث كان للثقافة العربية أثر في أدب الهوسا على مستوى الصور، والأفكار، ورواية القصة، وشعر الهوسا، ومطالع القصائد[34].

المحور الرابع: الصراع اللغوي في العصر الحديث

يختلف الصراع اللغوي من عصر لآخر من حيث النّوع والكيف، ويكون التأثير سريعًا أو بطيئًا حسب ظروف ذلك العصر، وسوف نتحدث في هذا المحور عن الصراع اللغوي في العصر الحديث وفي اللغة العربية كنموذج. 

عوامل الصراع في العصر الحديث

ويمكن تصنيف عوامل الصراع في العصر الحديث إلى عوامل خارجية وداخلية.

العوامل الخارجية

والعوامل الخارجية هي التي تكون شبه مفروضة على اللغة المتأثرة، كالقوة بأشكالها المختلفة من دينية وسياسية وعسكرية واقتصادية. [35]

   وهناك عامل خارجي آخر أبرز من العوامل السابقة في العصر الحديث، وهو عامل القوة العلمية التي امتلكتها بعض الدول الأجنبية الغربية والشرقية، فأفرضت لغاتها عن طريق تقدّمها العلمي، وقد أثر هذا العامل على اللغة العربية بشكل واضح إذ؛ فرضت بعض اللغات الأجنبية المتقدّمة في العلم أسماءها ومصطلحاتها التي تسربت إلى اللغة العربية، وأصبح المصطلح الأجنبي أيسر لدى متكلّمي اللغة العربية من المصطلح العربي، وكما، نجد أن المنتجات التي تصدر من تلك البلدان الأجنبية وكل ما يتعلق بها من أسماء وتعليمات وإرشادات للمستخدم بلغة أصحابها بغض النظر عن البلد الذي سيتم إرسال المنتجات إليه، ما أدّى إلى تعليم لغاتها وفتح معاهد لتعليم اللغات الأجنبية. [36]
    
وتجاوز الأمر الناحية الصّناعية التّقنية إلى الناحية العلمية التأليفية، حيث نرى بعض المؤلفين العرب يولعون باستخدام مصطلحات أجنبية غربيّة مع وجود مصلحات عربية بديلة ومغنية، ويستخدمونها أيضا في النّدوات والمؤتمرات والمقابلات.[37]

العوامل الداخلية

وتتمثل جوانبها في الآتي:

    تعليم اللغة الأجنبية والتعليم بها: فتعليم اللغة الأجنبية يساعد على تحقيق بعض الأهداف التي لا تتحقق إلا بتعليمها، ولكن تعليمها يحتاج إلى استراتيجية وخطة محكمة حتى لا يؤدي تعليمها إلى صراع داخلي، فقد أدّى تعليم اللغة الأجنبية في المرحلة الابتدائية على حساب مقررات اللغة العربية صراعًا واضحًا، ما أدّى إلى عزوف أفراد الجيل عن اللغة العربية واتّخاذ موقف سلبي ضدّها واعتبارها من أكثر المقررات صعوبة.[38]

واقترح بعض الباحثين علاجًا لهذه المشكلة وهو عدم تدريس اللغة الأجنبية في الصفوف الأوّلية، وتقليل سنوات تدريسها لتكون في المرحلة الإعدادية وما بعدها.[39]

    ويتمثل جانب التعليم باللغة الأجنبية في فكرة أن العلوم لا يتعلم إلا بلغتها الأصليّة، فنجد أن كثيرًا من الجامعات العربية يدرسون الطب وغيرها من العلوم باللغة الانجليزية وليس العربية، مع أن التجارب أثبتت خلاف ذلك، كتجربة سوريا في تدريس الطب باللغة العربية وما حققتها من نجاحات متتالية، وغير ذلك من الدراسات التي أجريت والتي تنمّ عن قدرة الطلاب على الاستيعاب الجيّد باستعمال اللغة العربية في تدريس الطبّ.[40]

سوق العمل: 

يحمل سوق العمل مسؤولية كبرى في الصراع اللغوي، وتظهر ذلك في الشروط التي تفرض أحيانا للالتحاق بمجال معين كشرط اللغة الإنجليزية، وكذلك كتابة اللغة الأجنبية إلى جانب اللغة العربية على لافتات المحلّات التجارية. وفي المجال الصحّي نجد أن وصفات العلاج لا تكتب باللغة العربية وغير ذلك من الأمثلة التي نجدها في سوق العمل والتي تساعد كثيرا على إنشاء صراع داخلي.[41]

     الخـــــــــــاتمة

وبعد هذا التقديم الموجز عن الصراع اللغوي وطبيعته وتأثيراته في تاريخ اللغات استخلصنا من خلاله أهم النتائج التالية:

v     أن تغلب لغة على أخرى في الصراع اللغوي يعتمد على ما لها من حضارة راقية وثقافة مزدهرة.
v     أن الصراع بين اللغتين صراع طويل الأمد، تطول مدته كلما كان الصراع عنيفًا، وكانت المقاومة من ناحية اللغة المغلوبة قوية.
v     أن تغلب إحدى اللغتين على الأخرى لا يمنع من أن تترك اللغة المغلوبة بعض مفرداتها أو تراكيبها أو بعض قواعدها على اللغة المنتصرة.
v     أن عدم تغلب إحدى اللغتين على الأخرى لا يمنع من التأثر والتأثير بينهما.
v     ليس بالضرورة أن ينجم عن الصراع اللغوي بين اللغات تغلب لغة على أخرى، فقد يكون الصراع بين اللغات من ناحية المثاقفة والتلاقح الثقافي واقتباس اللغات من بعضها البعض دون أن يكون هناك صراع حاد أو جدي، كما حدث بين اللغة العربية والفارسية في العصر العباسي، وكما يمكن تصنيف الصراع بين اللغة العربية والهوسا من هذا النّوع.
v     يؤدي تدريس اللغات الأجنبية في الصفوف الأولية إلى صراع داخلي.
v     أثبتت التجارب أن جميع العلوم يمكن تدريسها باللغة الأم.


 إعداد/ أ. محمد نذير أبوبكر
   جامعة الملك سعود بالرياض



[1] - ينظر: علي، عصام عبد الله، الصراع والتعايش اللغوي في نيجيريا، مجلة اللسان الدولية للدراسات اللغوية والأدبية، جامعة المدينة العالمية، كلية اللغات، المجلد الأول، العدد الثالث، 2017، ص/5.

[2] - عفيفي، أحمد، نقلا من المرجع السابق، ص/ 5.

[3] - ينظر: وافي، علي عبد الواحد، علم اللغة، الطبعة التاسعة، نهضة مصر للطباعة والنشر، 2004، ص/229.

[4]- ينظر: وافي، علي عبد الواحد، علم اللغة، مرجع السابق، ص/ 247-248.

[5] - ينظر: وافي، علي عبد الواحد، علم اللغة، مرجع سابق، ص/229.

[6] - ينظر: المرجع نفسه، ص/230.        

- ينظر: وافي، علي عبد الواحد، علم اللغة، مرجع سابق، ص/ 230. [7]

[8] - ينظر: المرجع نفسه، ص/ 231-232.

[9] - ينظر: المرجع نفسه، ص/237-238.

 - ينظر: وافي، علي عبد الواحد، علم اللغة، مرجع سابق، ص/238.[10]

[11] - ينظر : المرجع نفسه، ص/ 239.

[12] - ينظر: المرجع نفسه، ص/240.

- ينظر: المرجع نفسه، ص/240-241.[13]

[14] - ينظر: وافي، علي عبد الواحد، علم اللغة، مرجع سابق، ص/ 241.

[15] -  ينظر: عبد التواب، رمضان، المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي، الطبعة الثالثة، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1997م، ص/174.

[16] -  ينظر: المرجع نفسه، ص/ 174-176.

[17] - ينظر: عبد الدائم، علاء، الصراع اللغوي بين الحضارات السامية القديمة، مجلة مركز بابل للدراسات الإنسانية، جامعة بابل، المجلد الثاني، العدد الأول، 2012م، ص/371.

[18] - ينظر: عبد الدائم علاء، الصراع اللغوي بين الحضارات السامية، مرجع سابق، ص/ 371.

[19]- ينظر: وافي، علي عبد الواحد، علم اللغة، مرجع سابق، ص/239.

[20] - ينظر: عبد الدائم علاء، مرجع سابق، ص/ 371.

[21] - ينظر: المرجع نفسه، ص/3ِ71-372.

[22] - ينظر: عبد الدائم علاء، الصراع اللغوي بين الحضارات السامية، مرجع سابق، ص/ 375.

[23] - ينظر: المرجع نفسه ص/ 375.

[24] - ينظر: المرجع نفسه، ص/378.

[25] - ينظر: المرجع نفسه، ص/ 379.

[26] - ينظر: عبد الدائم علاء، الصراع اللغوي بين الحضارات السامية، مرجع سابق، ص/ 379.ِ

[27] - راجع الصفحة 4-5.

[28] - راجع الصفحة 6.

[29] - ينظر: محمد، الأمين أبو منقا، أثر الإسلام واللغة العربية وآدابها في نشأة وتطور أدب الهوسا، دراسات إفريقية، 1994م، ص/ 135.

[30] - ينظر: المرجع نفسه، ص/ 135.

[31] - ينظر: المرجع نفسه،  ص/ 135.

[32] - ينظر: المرجع نفسه، ص/ 135-136.

[33] - ينظر: سرور، صلاح خليل عبد العال، أثر اللغة العربية في لغة الهوسا، مقالة، منتديات تخاطب، (ta5atub.com)، 2011م، تاريخ الخميس 19، الساعة الثالثة مساء.

[34] - ينظر: المرجع نفسه.

[35] - ينظر: الدبيان، إبراهيم بن علي، التعليم باللغات الأجنبية في العالم العربي، مؤتمر علم اللغة الثالث، كلية دار العلوم، جامعة القاهرة، 1427هـ، ص/5.

[36]- ينظر: المرجع نفسه، ص/ 5-6.

[37]- ينظر: المرجع نفسه، ص/6.

[38] - ينظر: الدبيان، إبراهيم بن علي، التعليم باللغات الأجنبية في العالم العربي، مرجع سابق، ص/ 7.

- ينظر: المرجع نفسه، ص/ 8.[39]

[40] - ينظر: المرجع نفسه، ص/ 8-9.      


- ينظر: المرجع نفسه، ص/ 10.[41]

تعليقات