القائمة الرئيسية

الصفحات

حول العالم

رمزيّة الشجر في الأدبيات الإفريقية: إبراهيم ديكو نموذجا/ دكتور: عمران سعيد ميغا


 رمزيّة الشجر في الأدبيات الإفريقية:
 إبراهيم ديكو نموذجا.
      المدح: هو إثبات الفضائل المعروفة لدى مجتمع ما في حقّ من يقال فيه المدح؛ وذلك للثّناء على الممدوح وإثبات فضله ومكانته في ذلك المجتمع الذي ينتمي إليه. ويعدّد قدامة بن جعفر بعض المُثل والمعاني النّفسية التي يمكن أن يتفاضل النّاس فيها على بعضهم البعض فيحصرها في أربعة أوصاف "العقل والشجاعة، والعدل، والعفّة"[1]، فهو يرى أن هذه الصفات الأربعة هي التي يستحق للنّاس أن يتفاضلوا فيها ومن يُمدح ينبغي أن يأتي بقدر منها إن لم يجمعها كاملة فعلى قدر مما يجعله مستحقا لنسب الفضل إليه، لذلك يردف قائلا: إنّ المادح "بهذه الأربعة الخصال مصيب والمادح بغيرها مخطئ "[2]. ولكن من الأفضل أن نلقي بالا للتطوّر الفكري عبر العصور والذي قد يُقلِّب بعض المفاهيم ويجعل ما كان رذيلا في زمن ما مفضلا في زمن آخر "فإذا كان لكلّ عصر ذوقه الخاصّ، فإنّ تسجيل هذا الذوق لا يكون إلا في تلك الجماليات التي تروّج في هذا العصر"[3]، وإنّ تقييد الصفات الفاضلة في هذه الأربعة فقط، يحتاج إلى إعادة النظر! وإنما ينبغي أن يترك الأمر للمعايير التي يحتكم إليها العصر الذي يعيش فيه الشّاعر وممدوحه أن يتحكّم في تصويب الفضائل وانحطاط بعضها عن قمّة الأفضليّة[4].
والمدح في الشعر العربي أو الأدب العربي هو سرد المواصفات الحسنة عن الممدوح سعيا إلى إبراز الممدوح في صورة وهيئة حسنة...والهدف منه أحيانا يكون للتكسب من خيرات الممدوح وهو أغلب وقد يكون لمجرد رفع مكانة الممدوح...وعندما يسعى الشاعر في هذا الغرض يستعين بعناصر عدة من أهمها التشبيه بالماء: البحر أو المطر...هو كالبحر في عطائه، فالبحر يعطي ولا ينفد بل لا يشعر من نقص شيء منه. وهو كالمطر...بل المطر أحيانا يشعر بالحياء لعجزه عن محاكاة الممدوح. ولا نريد إطلاق الحكم في هذا الموقف ولكن الأغلب يأتي من هذا الباب...
وعندما نلتفت إلى أدبيات إفريقية نجد أن المدح يأخذ منحى آخر...وهو التشبيه بالشجرة...أو بتعداد أسرة الممدوح وإن كنا لا نعدم هذا في الشعر العربي إلا أن الفارق بينهما أن الشعر العربي يكتفي بتعداد نسب الممدوح...بينما الأدبيات الإفريقية تضيف إلى تعداد النسب  أسرة الممدوح كأن يقولوا زوج فلان أو زوجة فلان...وأخ أو أخت فلان...وشيء من هذا القبيل.
ولنعد إلى رمزية الشجرة في أدبيات إبراهيم ديكو...مثلا يمدح شخصا:
آباء محمد أشجار.
الشجرة التي تنبت وتثمر.
 أو الشجرة التي تنبت وتصنع بالفيء ظلا.
نجد في هذه الملاحظة تحقيق أدبية عالمية...حيث كل منها يستخدم رمزا عالميا أو الإيحاء إلى ذلك الرمز. وهو الماء رمز الحياة...الشجرة لها ثمر وثمرها رمز للحياة ..والظل أيضا رمز للراحة...ولكن الشجرة لا تكون إلا بوجود الماء. يقول عز الدين إسماعيل: "فالرمز الشعري مرتبط كل الارتباط بالتجربة الشعورية التي يعانيها الشاعر، والتي تمنح الأشياء مغزى خاصا. فعندما يستخدم لدالشاعر كلمات مثل: البحر، الريح، القمر...فإنه يستخدم عندئذ كلمات ذات دلالة رمزية.."[5]
وقد قيل إن كل قوم يستخدم في تراثه الرموز التي توصل إليها وعرفها في حياته الاجتماعية والثقافية...وإن كنا لا ننكر فضل الماء ولكن يبدو أن العناية بالشجرة أكثر من الماء...أو أنهم لم يدركوا الروح الفنية في الماء...فما أدركوه وأدركوا قيمته أذاعوا بفضله...ويظهر: ذلك في مكان آخر حيث يتغنى إبراهيم ديكو بالقحط أو الجدب. وفيه يشيد بفضل الشجرة، وأن عدم الشجرة في بيئة ما لا يبشر بخير. وربما ينسى أن زوال القحط واخضرار الشجرة لا يكون إلا بالماء. اللهم إلا أن الجامع الروحي بين الشجرة والماء في وجه المدح هو العطاء المتمثل في كل واحد منهما، عطاء الحياة بالثمار والظل المتمثل في الشجرة وتحقيق الحياة في الماء الذي رمز للحياة كما هو في الموروث الثقافي والديني.
وعليه نقول فإن المدح بالشجرة مدح، يحتاج إلى إعادة النظر والحفر في خلفية ثقافية للأديب الذي يستخدمها رمزا فنيا في نتاجه. ولكننا نعذر الأديب أنه لا ينطلق إلا مما توفره له حياته الاجتماعية "فرصيد النص الأدبي: لا يتكون فقط من معايير اجتماعية وثقافية؛ فهو يضم عناصر أدب الماضي بكل تراثه مع تلك المعايير..."[6]. فإذا كانت قيمة الرمز تكتسب من التجربة الشعورية فإنه لا تفاوت بين الرموز إذ المعول في ذلك على استكشاف الشاعر العلاقات الحية التي تربط الشيء بغيره من الأشياء. وأديبنا عرف تلك العلاقة بحيث أضفى على الرمز تجربته الخاصة التي تعطي فهم العطاء وتحقيق الحياة الجامعة بين الرمز والممدوح.
وعليه نرجو ممن يأتون بعدهم من الأدباء أن يدققوا في اختيار الرموز مما لها معنى وقيمة للإنسانية، والفنية أولا...وكنت وددت أن أنبه إخواني الشعراء أن ينطلقوا عن مبدأ إنساني وعن فلسفة في الحياة...وليحذروا كل الحذر من جعل نتاجهم الفني نتاج المناسبات...لأن فكرة المناسبات تجعل النتاج عقيما ويتكرر في نفسها ولا تعيد إلا الشيء نفسه... ولا عليه أن ينتظر مناسبة لأن ينتج بل ينبغي أن يعيش الأديب عيش الفنان المرهف الشعور، الذي يرى من الحياة ما  لا يراه الإنسان العادي غير االمتمع بعقل فني. وعندما ينطلق الشاعر من فلسفته في الحياة يبني فكرته وتصوره عن الحياة...وفي ذلك كل ما ينتجه يكون عن ذاكرة فنية وتكون له قيمة فنية...فإننا نريد من الأديب أن يشعر قبل أن نشعر نحن الجمهور، وإذا انتظرنا حتى نشعر فلا فرق بيننا إذا...ملاحظة لطيفة... والله الموفق للجميع. 


دكتور/ عمران سعيد ميغا
برحاب جامعة الملك سعود







[1] أبو الفرج، قدامة ابن جعفر: نقد الشعر،   ص 96. [2] المرجع نفسه. [3] إسماعيل، عزالدين: الأسس الجمالية في النقد العربي: عرض وتفسير، ومقارنة، طبعة1412هـ/1992م، دار الفكر العربي-القاهرة. ص 26. [4]  "ذلك أن كلّ حقبة تعرف هيمنة رمزية تحدد ما نوع القيم الذي يجب أن يسود" ينظر: جيران، عبد الرحيم: سراب النظرية، الطبعة الأولى 2013م، دار الكتب الجديد المتحدة، بيروت-لبنان. ص151. [5]  إسماعيل، عز الدين: الشعر العربي المعاصر: قضاياه، وظواهره الفنية والمعنوية، الطبعة الخامسة1994م، المكتبة الأكاديمية، القاهرة- مصر. ص١٧١-١٧٢. [6]  إبراهيم، عبد الله: السردية العربية الحديثة: تفكيك الخطاب الاستعماري، وإعادة تفسير النشأة، الطبعة الأولى:2013م، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت- لبنان،  ص٧٣.

تعليقات

تعليق واحد
إرسال تعليق
  1. جزاكم الله خيرا
    وردتني بعض التساؤلات حول المقالة...
    رمزية الشجرة: وكانت عن كثرما تناولناه عن نتاج إبراهيم ديكو...وأن الشجرة لم ترد عنده فقط.وأقول صحيح...ولقد وردت الشجرة في فليم مملكة سيغو...وكان المداحون يمدحون الملك بكون هو الشجرة الكبرى لسيغو...وفي تاريخ السونغاي عندما تخاصم الملك موسى ابن أسكيا محمد الخليفة الأول لوالده، مع إخوانه، فذهب إليه مشايخ تمبكتو للصلح بينه وبين إخوته. ورد في مقولتهم(نريدك أن تكون الشجرة الكبرى التي يستدل بها جميع إخوانك وشعب سونغاي) مما يعني أن الأمثلة كثيرة عن رمزية الشجرة في المقولات الإفريقية، إلا أننا أردنا الاختصار على المدح في هذه المقالة لأنها استخدمت رمزا له في هذا الموقف.
    والاشتغال بنتاج ديكو: فقد كان استجابة لطلب بعض الإخوة ممن طالبوني بجمع هذه الآثار والإشارة إلى مكانتها. وإلا فكل تراث إفريقيا مهم لدي له قيمته في نفسي ومكانته عندي. وقد كتبت مقالة حول الحبكة السردية في الحكايات الإفريقية وفيها جل الأبطال الأسطورية الذين عرفهم تراث غرب إفريقيا وبالأخص تلك البقعة التي تنبسط عليها أرض جمهورية والنيجر....
    والشكر للجميع على التنبيه. وحسن التفاهم.

    ردحذف

إرسال تعليق

شكرا على تعليقك