القائمة الرئيسية

الصفحات

حول العالم

تحقيق الذاتية من خلال النغمة الخاصة


من القصص الإفريقية، خاصية لعل كلّ دراس متيقظ ينتبه لها، وهي خاصية عزف النغمة الخاصة لشخصية البطل، وهذه النغمة تسمياتها مختلفة من شعب إلى آخر، ففي (زرما، تسمى: مُولُو)، وعند سونغاي، تسمى(سُبُو) وعند بمبرا، تسمى:( بَوْدِي). وإن كانت التسمية الأخيرة معروفة عند الجميع.
وهذه النغمة أمرها خطير في الثقافة الإفريقية، حيث نجد أي بطل مهما بلغ من الشجاعة والفروسية لا يرتاح إلا إذا وجد نغمة خاصة به لا يعزف لأحد إلاّ له، وكل من سمع تلك النغمة عرف أن الصاحب هو البطل الفلاني، ولا يجر أ أحد أيضا على عزفها لنفسه واستماعها، إن لم يكن من باب الترويح عن النفس، أو يكون من متابعي صاحب النغمة، وإلا فإن كلّ بطل لا يقبل نغمة غيره، فمن تجرأ على سرقة نغمة الآخر فإنه قد أجرّ الهلاك على نفسه.

إثبات الذاتية من خلال النغمة الخاصة:
إن البحث عن النغمة الخاصة بالبطل من أهم ما يتوصل إليه البطل بعد ما يحقق لنفسه الغاية القصوى التي هي الملك أو الصيت الذائع، ومن أمثلة البحث عن النغمة الخاصة، ماذكر عن (جلاهمبدوجي جلاباتي) حيث أصبح يوما غضبانا، منفزعا، فألقى أسئلة على زوجته: أي زوجته الحبيبة، منذ أن تزوجت بك، ما الذي لم أفعله ولم أقدمه للمدّاحين؟ فغضبت! وقالت: إنك الآن تريد  أن تمنحني للمدّاحين، كي يتحقق لك السمعة التي تسعى إليها!!! فإني لن أُمنح لمدّاح! ولم تعرف أن الرجل لا يرغب في منحها للمدّاحين وإنما يتعجب من عدد ما قدمه لهم، ومع ذلك لا يمدحونه إلا بنغمة الآخرين، وفي سبيبل تحقيق النغمة الخاصة قتل ثلاث مئة وزيادة مدّاحا، حتى فر أحد المشايخ من المداحين راجيا أن ينجي بنفسه ليبقي على نسل المدّحين، فإذا به يصادف بطير جني في جزيرة تعزف نغمة خاصة لم يسبق للشيخ أن سمع هذا العزف، فأوقف السفينة، وتعلم  ذلك العزف خلال برهة من الزمن، فقال لصاحب السفينة ارجعني إلى حيث أخذتني، فإني قد وجدت ما أطلبه، ولقد كنا تمادينا في الغي حيث لم نبحث عن هذه النغمة منذ، قبل هذا اليوم! فإنه قد وجد ما يطلبه، وعليه رجع وكان سببا في تخليص بعض من كان مربوطا ينتظر موعد قطع رأسه، وبهذا حقق لنفسه نغمة خاصة لا تعزف لأحد غيره، ولو لم يفعل ما فعل لما تحقق له هذا المطلب. وعدم وجود هذه النغمة تقصير في حقه من قبل  المداحين الذين أعطاهم أنفس ما يملك ولم يبخل عليهم أبدا.
ومن أمثلة خصوصية العزف ما يحكى عن (دوندوغوربا ديكو) حيث حضر يوما في بلد، فنزل عند أمير البلد، ووجد أن الأمير عنده ابن مدلّعٌ و غال عليه، ، وهذا الابن حديث العهد بالعرس، وهو اتخذ عزف نغمة (غوربا ديكو) نغمة عزف لنفسه، تعزف له حتى يأخذه النوم، وتعزف له حتى يستيقظ من النوم، وحدث أن الضيف الذي نزل بهم هو الصاحب الحقيقي للنغمة، ولم يكونوا يعرفونه أصلا، وإنما عرفوا أن هذه النغمة تعزف لباسل وشجاع، يسمى كذا!! فاختاروها. وكا من عادة الابن المدلّع أنه يجلس هو وزوجته بعد الغداء في مجلسه، تعزف له تلك النغمة إلى غروب الشمس، وفي ذلك اليوم صاحب النغمة حضر في المجلس، فلما عزفوا اشتد به نشوة الطرب، فلم يتمالك حتى سألهم: أنتم تعزفون هذه النغمة لمن؟ فلم يلقوا له بالا؛لأنهم يرونه ضيفا أحمق كيف يتدخل فيما لايعنيه، وكرر السُّؤال، نفس الشيء، فلما ألحَّ عليهم قالت المرأت: إنك تسأل كثيرا، فاعلم أنّ صاحب هذه النغمة هو (دوندو غوربا ديكو) وهو بعيد عنا، وهذه النغمة لاتعزف الآن إلا لحضرتي، ولزوجي العزيز الذي تراه، فدع عند السؤال وادخل فيما يعنيك. فقال (غورباديكو): حتى أنا لا أعرفه تماما، ولكنّي أملك جِرابا من التمبور معلقا على رحلي، فابعثوا من يأتي به ليُوزَّع على هؤلاء العزاف، لئِن قدر الله أن مرّ (غوربا ديكو) يوما بهذه البلاد فأخبروه بأن هناك من مرَّ بكم ووهب ما في وسعه فداء لنغمته الخاصة، فوُزِّع التمبور، وجرى شرَّته في العروق، فاشتدّوا في العزف، فلم يتماسك(غوربا ديكو) حتى انفزع قائما فأخذ ابن الأمير ووضع قدمه على رقبته، وحلف على العزّاف أن من يخطئ في العزف سيسبق الله على روحه،(أسلوب التهديد والتخويف) فسيطر  الخوف على القوم، وألزم كل من العروس والعريس أن يقسم بالطلاق البائن بينهما، فكانت العروس غنيمة باردة له.
وربنما هزم سماعُ عزف نغمته الجيوشَ، وحدَث مرّة أن جيشا سيطرة على أبقار تلك البلدة التي أخذ زوجة الابن المدلع منه، فخرج في أثر الجيش، فوجدهم في الليل بجانب خوض، فلم يرد أن يباغطهم، فنزل على الدفة الأخرى، ثم أخذ يعزف لنفسه نغمته الخاصة – وهذا أيضا دأب الأبطال أن يتعلم العزف ويعزف نغمته الخاصة في حال وحدته يستأنس بها عن نفسه ويثير في نفسه الجرأة والشجاعة- وعندما كان يعزف سمع بعض النّاس ممن في الجيش عزفه، ويعرفون نغمته، فقالوا لرئيسهم إنّ الرجل موجود عند الدفة الأخرى!!! ولا شكّ أن هذه النغمة نغمته الخاصة، وأما أنا فلن يجدني هنا، وهكذا، فرّ جلّهم فلم يبق إلا الأشقياء منهم. وبقي في العزف، ولم ينطقع الصوت حتى وجدوه واقفا عندهم يسألهم هل استعدوا فإن لم يستعدوا فسيعود حتى يتجهزوا....وكان العاقبة أنه قتلهم جميعا، ورجعَّ الأبقار إلى أهله، ووزع بعضها على المدّحين العازفين الذي كانوا يعزفون نغته الخاصة به يوم وصل البلد.
ومن القصص الغرامية نجد (سمبا سوغا، ولوبو سوغا) حيث إن (سمبا) يملك نغمة خاصة لا يعزفها لأحد غيره، وفي حين يكون مع عشيقته (لوبو)، وحدث أن زوِّجت بقهر لأمير بلد ما، فكان (سمبا) يزورها في الليل على إشارات اتفاقية بينهما، وفي يوم من الأيام أخطأت في الإشارة، فكان أن وجد (سمبا) الأمير عند زوجته (لوبو)، فلما دخل القصر ووجد الأمير، لم يهرب، وإنما أسند سيفه، وجلس عند رأسيهما يعزف عزفه الخاص، حتى طلع الفجر ثم نهض وخرج عائبا إلى منزله، وفي الصبيحة، غضب الأمير وجمع كل المدّاحين؛ ليستمع إلى نغماتهم فكل من استمع إليه ووجد أن عزفه لا تشبه النغمة التي سمعها بالبارحة يقطع رأسه، فأكثر القتل في المدّاحين القوّالين، حتى خشي القوم الانقراض على أنفسهم، فقالوا للأمير: أحسن الله إليك أيها الأمير، فقال أمين، ثم قيل: أيها الأمير أنت تبحث مدّاحا، أم عازفا فقط؟ فأجابهم بأنّه يبحث عن العازف،  عنده قيل له: إننا نعرف شابا يعزف، ولكنه لا يعزف لأحد غير نفسه؛ لأنه لا يتسوّل؛ فيمدح الإنسان به، ولا يخاف من أحد حتى يفدي نفسه بالعزف له، فأمر الأمير بدعوته، فلما حضر (سمبا) وعزف أمام الأمير، حلف بربّه أن عزف البارحة هو هذا،....ورأى بمشورةٍ من بعض مستشاريه المشايخ أن يبقي عليه وأن يخلي بينه وبين عشيقته.
محل الشاهد أن عزف النغمة الخاصة لها دور خطير في الثقافة الإفريقة وحتى إن لم تكن النغمة خاصة بأن كانت عامة ولكنها منتمية لقبائل خاصة حيث يمدحونهم بها، فإنها عندما يسمعونها يأخذهم الطرب إلى درجة لا يتصور، ويقدمون كلَّ ما يملكون بل البعض يفعلون ما فوق طاقتهم. وهذه خاطرة وجيزة حول هذه الخاصية في الثقافة الإفريقية، وددت تدوينه، ولعلها تفتح الباب أمام الباحثين البارعين في الأدب الإفريقي، وخاصة في القصص الشعبية.
بقلم الدكتور/ عمران سعيد ميغا
الرياض:09/2/2020م

تعليقات