القائمة الرئيسية

الصفحات

حول العالم

سطور في فلسفة "موت المؤلف" البَرْتيّة/ بقلم. أ. إبراهيم عبد الله


 سطور في فلسفة "موت المؤلف" البَرْتيّة:

"النص كل النص لا شئ إلا النص" 
‏ (The text all the text nothing but the text"- (LUCIEN GOLDMAN"

أ. إبراهيم عبد الله
     كان النقد الأدبي الكلاسيكي قبل ظهور النقد البنيوي في أمس الحاجة إلى تطوير المنهجية العلمية المحايثة تركز في تحليلها على النص ذاته؛ لأن جل المناهج أو التيارات التي هيمنت -آنذاك- كانت تسعى إلى دراسة العمل الأدبي  في إطار الظروف المحيطة به من تاريخية،ونفسية،
واجتماعية...،وتربط المبدع بإبداعه ربطا آليا، الأمر  الذي دفع الناقد الكلاسيكي إلى اعتبار العمل انعكاس حرفي لحياة مؤلفه،وثقافته،ونفسيته،
وأذواقه،وأهوائه...،وجعله-كذلك-يمركز استراتيجية نقده كله عليه، ويعطي لهذه الشخصية المبدعة-التي استطاعت أن تخرج العمل إلى العالم الوجودي الحقيقي - أهمية قصوى لم يعطها للنص ذاته.

   ففهم النص إذن-في تصور-الناقد الكلاسيكي- يستلزم فهمًا دقيقا لبيوغرافية الكاتب.
   
   إن هذه الفكرة الكلاسيكية قد أدت-بلا شك- إلى الإقرار والإيمان بـ"مصداقية الكاتب" وبـ"وحدانية المعنى أو القراءة للنص"، حيث يمكن للناقد الواحد استخلاص المعنى الوحيد للنص بقراءته القرآنية الوحيدة.
      
   وظل النقد قائما على هذا النمط الكلاسيكي إلى أن وُلد الفكر البنيوي وخصوصا البنيوي البَرْتِيّ (نسبة إلى الناقد الفرنسي رولان بارت) وشن حملة قاسية ضده وذلك عندما قام بتدشين  فلسفة "موت المؤلف"
‏(DEATH OF THE AUTHOR)،تلك الفلسفة التي تدحض كل محاولة تجعل المبدع مركزا للاهتمام في العملية التحليلية،أو تختزل الأدب إلى وظيفة نفسية إسقاطية،أو كل محاولة تخول للأدب غاية اجتماعية براغماتية بحتة وتغتصب منه قيمته الاستاتيقية الفنية (أَدَبِيَّة الأدب).
     
   فالفلسفة البَرْتية -إذن- تدعو إلى مباشرة العمل الأدبي في حد ذاته بصرف النظر عن مبدعه الحقيقي وكل ما هو متعلق به،وبقطع أحبال السرية التي تربطه بإبداعه، والانطلاق من الارتكاز على النص ذاته. فــ"النص كل النص لا شئ إلا النص".
       
    إنّ إقصاء المؤلف عن عمله تُتِيحُ للمتلقي -على التحقيق- فرصة التفاعل مع النص بلا قيود؛ لأنه من سيتولى بحلّ كُود النص وملئ بياضاته.
      
   فعليه -إذن- (المتلقي) أن يوجه إلى النص -وليس المؤلف- جميع التساؤلات التي ستدور في خلده عندما يقف إزاءه وينتظر بعد ذلك إجاباته.
      
   ويشغل بالي-هاهنا-العديد من التساؤلات والتي تطرح نفسها في هذه العجالة: إذا كان هذا النقد البَرْتي يُصرّ على إبعاد المؤلف عن الأثر الأدبي إلى هذا الحد، فما الذي سيحل محله؟!، أبإمكان الكتابة أو اللغة أن تحل محلّه؟! أم بالإصرار على "القراءة التعددية"؟،فيعوَّض حينئذ بالقارئ ويكون هو الكاتب الفعلي للنص.

   يرى الناقد البنائي الفرنسي ملارمي (MALARME)- الذي يعد مع رولان بارت أول من اهتدى بحدسه إلى هذه القضية- بأن اللغة ذاتها هي التي ستحل محله، ويتمثل ذلك في قوله: "...فاللغة...هي التي تتكلم وليس المؤلف؛ أن أكتب معناه أن أبلغ، عن طريق محو أولي شخصي...،تلك النقطة التي لا تعمل إلا اللغة وليس "أنا"...".(ينظر في: درس السيميولوجيا، رولان بارت،ترجمة عبدالسلام بنعبد العالي، ص:82-83).

   إن المؤلف- في نظر مالارمي- ينبغي استبداله باللغة في العملية التحليلية؛لأنها (اللغة) هي المانحة الحقيقية للسرد النصي.
       
    ويقودنا هذا إلى القول بأن اللغة تَنْكَتِب نفسها بنفسها.
  
    أما بارت وإن كان قد شارك مع مالارمي في رأيه، فإنه يلح في بعض كتاباته على "القراءة التعددية"، ويرى أن القارئ هو من ينبغي إحلاله محل المبدع. 
         فميلاد القارئ -حسب بارت- رهين بموت المؤلف.
       
    ونقرأ ذلك في المقولة التالية: "...نعلم الآن أن النص لا ينشأ عن رصف كلمات تولد معنى وحيدا،معنى لاَهُوتِيا إذا صح التعبير؛ وإنما هو فضاء متعدد الأبعاد،تتمازج فيه كتابات متعددة وتتعارض، من غير أن يكون فيها ما هو أكثر من غيره أصالة: النص نسيج من الاقتباسات تنحدر من منابع ثقافية متعددة...تدخل في حوار مع بعضها بعض، وتتحاكى وتتعارض؛ بيد أن هناك نقطة يجتمع عندها هذا التعدد، وليست هذه النقطة هي المؤلف،كما دأبنا على القول، وإنما هي القارئ...إنه ليس إلا ذلك الذي يجمع فيما بين الآثار التي تتألف منها الكتابة داخل نفس المجال...لقد أصبحنا نعلم أن الكتابة لا يمكن أن تتفتح على المستقبل إلا بقلب الأسطورة التي تدعمها: فميلاد القارئ رهين بموت المؤلف". (ينظر في: درس السيميولوجيا،المرجع السابق، ص:85-87).
  
    يتضح من خلال المقولة أن كل نص يحتوي على معان وثقافات مختلفه،ثقافات تتحاور وتتصادم مع بعضها بعض في العالم النصي، وبالتالي كل نص يترك في نفسه بياضات،بياضات يستحيل للمؤلف ولا لمتلق واحد أن يملأ جميعها.
     
   فكل قارئ -إذن- يقوم بتعبئة البياضات التي تخصه فقط وتتطابق مع ذوقه وثقافته، فمن هنا ينكشف السر الموجود وراء  "القراءة التعددية" التي يحث عليها بارت، وتتجلى كذلك أهميتها.

    إن هذه النظرية البَرْتِية قد استطاعت أن تضع حدا كبيرا للتيارات السياقية، وأن تقضي على الفلسفة الكلاسيكية، فلسفة "وحدانية المعنى"،كما تمكنت من منح النصوص الأدبية القوة الإنتاجية اللانهائية بتلك "القراءة التعددية"؛ لأن دلالات النصوص تتعدد كلما تعددت القراءات.

    وفِي الختام تجدر بنا الإشارة إلى أن بارت رغم إلحاحه على "القراءة التعددية" إلا أنه لم يقف عند حدود ذلك، بل راح يميز في الوقت نفسه بين القرّاء الابستمولوجيين المنتجين وبين القرّاء العاديين المستهلكين.
     
    فالنصوص الأدبية-إذن-لا ينبغي أن يتصدى لدراستها إلا قارئ ابستمولوجي؛لأن الهدف من العمل الأدبي-في تصور بارت-هو جعل القارئ منتجا للنص لا مستهلكا له.



   
                  بقلم الأستاذ /إبراهيم عبدالله سليمان.
 غانا                     

                       "في إشكالية مرض الفنان العقلي"
                      هو موضوع الدراسة في الجولة التالية-إن شاءالله.








تعليقات

تعليق واحد
إرسال تعليق

إرسال تعليق

شكرا على تعليقك