القائمة الرئيسية

الصفحات

حول العالم

قصة قصيرة بعنوان: "غدا نذهب إلى الحقول" أ. عبد الكريم إسماعيل ماكنجوأولا (المحلي)

                                 قصة قصيرة بعنوان:


"غدا نذهب إلى الحقول"


 الكاتب  الوجوه الباسمة المتنعمة من الرفاهية وبحبوحة العيش كانت بالأمس متلطخة ببخار التنور، يستر أصحابها أجسادهم بأوراق (كوكو) الكبيرة الملتفة حول الحقول، وليس المال وحده هو الذي يجلب السعادة، ويضع صاحبه في موضع الشرف عند أهله، بل قد تكون الجيوب خالية من الفلوس، والسنابل بلا حبوب، ولكن الأيام بظروفها والملابسات التي تلم بها تستر... تجعل الإنسان لا يفكر في الترف... ولا يتوقع الأكثر من اللازم من الشرف... إنه لفي الأرياف حياة شبه جنة الخلد التي وعد بها المتقون!!!...

في قريتنا نهر صغير يتعلق به قلب أخي (أحمد) كثيرا؛ لأنه يجود له بالأسماك!... كأن بينهما عهدا في الأخذ والعطاء... ليس من دأب (أحمد) أن ينجس في هذا النهر... لا يعوم فيه ... يشرب ماءه ... يحترم صفاءه... قد عطف حبه على النهر وعلى قريتي أكثر وأكثر...!!! لا يحلم بمغادرة قريتي لأي سبب من الأسباب... وأصبح أخي (أحمد) صاحب الشأن في قريتي...
 وأبي فلاح مشهور في قريتنا، يأكل البقول على مدار السنة، ولا ينتهي في بيتنا القوت، وأمي تكدس ما تشاء من الطعام... نقتات ما نشاء كما نشاء! ولقد أدركنا أنا وأخي أبي على هذا الحال، وتعلمنا منه كيف تحرث الأرض ويبذر فيها، غير أن أخي الصغير (أحمد) أنفع مني في الحراثة والزراعة، حتى يسميه أهل قريتي بلقب (الفلاح الصغير)، يخرج إلى الحقول حتى بدون إذن أبي، لا يرهبه شيئ، ولا يقف في وجهه صارف، يعمل وكأنه أجير استأجره أبي يستوفي عمله ليستكمل أجره، ويحمل نفسه - أحيانا كثيرة - أكثر من طاقته، وكم نصفق له (أنا وأبي) تصفيقا حادا على جديته وجودة عمله تشجيعا له، ويكاد يطير فرحا عندما نفعل له ذلك، غير أنه - في عينه - لم يفعل شيئا كبيرا؛ فقد أصبح هذا التعب لديه شيئا معتادا... وكانت له دراجة عادية يتدرج بها إلى حقول أبي البعيدة، وقد أكلت رجلاه دواستها من كثرة الركوب وبفعل التحريك المستمر..



وذات يوم جاء خالي لزيارة أبي في القرية وهو يسكن في مدينة (لاغوس)، وجاء في وقت الضحى وكان أبي قد خرج وقته إلى مزرعته، وذهب معه أخي (أحمد)، ولم يدرك خالي في البيت إلا أنا وأمي، فرحت أمي برؤيته فرحا شديدا؛ لأنه تعود ألا يغادر القرية كلما زارنا إلا ويمد يده إلينا جميعا... يعطي الجميع من المال ما يسعده. قالت له أمي: الآن خرج سيدك إلى مزرعته، وأنا متأكدة أنه لا يعلم بزيارتك هذه، فأجابها خالي يقول: صحيح، لم أخبره مسبقا بمجيئي إلى القرية، وبالتالي، فأنا بنفسي لم أفكر في المجيئ إلا في وقت متأخر في البارحة. وكان من حسن الحظ أن رجع أبي وأخي (أحمد) - على غير معتاد - في وقت مبكر في هذا اليوم، وكانت أمي وقت ذاك قد بسطت الحصير وجهزت الطعام، فتزاحمت أيدينا على الطعام ... إلا أمي التي تعودت أن تأكل وحدها، ومضى وقت الأكل بدون كلام؛ إذ كان أبي يكره أن نتكلم في أثناء الطعام.!!!...
تحت شجرة (مانغو) الكبيرة، وكنت أنا وأخي مع أمي في داخل المنزل، ولا نعلم شيئا مما يجري بينهما، ومر وقت طويل، فنادى أبي على أمي... أم أحمد ... أم أحمد ... لبيك .. لبيك... تجيب أمي نداء أبي، خرجت إليه أمي لتسمع ما سيقول أبي، أجلسها أبي قريبا إليه في جانبه الأيمن، وقال لها: لقد جاء أخي بطلب عظيم!!!... طلب لا بد من رأيك قبل أن أقطع القول فيه. طلب أن ينطلق (أحمد) معه إلى لاغوس ليسكن معه في شقة له مفروشة، لأنه يسكن وحده ولم يتزوج بعد... نظرت أمي إلى خالي نظرة تعجب!... ثم صرفت عنه النظر إلى أبي وقالت: إنه لطلب عظيم!!!...فـ (أحمد) هو المعول عليه في شؤون الحقول، وأنت تعرف الكثير مما يتميز به عن أخيه... ولكن في النهاية - وعلى مضض - أعطت أمي كلمتها! سلمت جدلا!! فقالت: رضيت أن ينطلق معه إلى لاغوس. ومن هنا ناداني أبي وأخي (أحمد) وأخبرنا بمطلب خالي وما اتفقوا عليه، استصعب (أحمد) هذا الانتقال، واستصعبته كذلك لأنني لا أجيد الحراثة مثل أخي، وبالتالي، فجميع الواجبات المنزلية ستقع علي وحدي، ولكن قد أعطى أبي كلمته التي لا تتغير!!!.

جلست أنظر وأشعر بالوحشة حتى قبل مغادرة أخي القرية، وأحزن لأنني سأبقى وحدي مع أبي وأمي في القرية، وأنني سأفتقد صحبة (أحمد)، وأحزن على حاله لأنه لم يفارق أهله من قبل، وأنه سيفتقدنا والنهر الذي كان يجود له بالأسماك، يمر الوقت سريعا عندما رأيت خالي قد استعد للعودة، وطلب من أخي أن لا يأخذ معه شيئا غير الثوب الذي عليه، بقيت أضع يدي على رأسي لأمعن النظر إلى أحمد الذي سيفارقني ويفارق قريتنا الحبيبة، خرج خالي يودعنا... وأحمد يقطن جبينه حزنا على الفراق المفاجئ،   وكانت أمي لا تحتمل ... قد امتلأت دموعا لفراق ابنها لها، بكى الجميع إلا أبي..! وبدأت أمسح دموعي بثوبي المتسخ، ولم تستطع أمي تحمل هذا المشهد، فدخلت مسرعة في حجرتها، ورافقنا أنا وأبي خالي وأخي حتى ركبا جناح السفر إلى لاغوس المباركة.

وصل أخي (أحمد) إلى لاغوس مع خالي، ووجدها بيئة مختلفة تماما عن بيئة قريتنا، بيئة مختلفة جدا... شوارعها، أناسها، أزياؤها، جوها، بيوتها ... إنها بيئة مهيأة!!!... ازدحمت شوارعها بالسيارات، (لاغوس) مدينة الذكاء!!!... تتسع لأناس مختلفين، هاوسا، إيبو يوربا، وغيرهم... وجد أحمد نفسه في الدنيا غير التي هو فيها من ذي قبل، وقال في نفسه: "لقد فتحت صفحة جديدة من صفحات حياتي". وبعد شهر من وصول أخي في لاغوس، لم يعد بوسع ذاكرته استحضار تلك المعاناة التي كان يعاني منها في القرية؛ إذ قد جرب لاغوس وذاق ما فيها من بحبوحة العيش والمجون، واستبدل بالجلوس تحت شجرة النخيل مشاهدة التلفاز من أحدث الطراز (بلاسما)، وبأكل الفواكه قالب الحلويات بأنواعها المختلفة!!!... لم يعد يفكر فينا ولا في النهر الذي كان يجود له بالأسماك، وكأنه رمى كل شيئ في طي النسيان! وكأنه لم تكن هناك قرية أصلا!!... ولم يكن هناك أهل غير خاله!...


وفي فترة الليل يغتسل خالي قبل النوم كما تعود أخي (أحمد) على ذلك، ويتعشيان معا من أكلات التوصيل من مطبخ (مِسْتَا بِيغ)، ثم يذهب كل واحد منهما إلى غرفته الخاصة، أصبح أخي ينام نوما هادئا منتفعا به في ظل المكيف... نام ذات يوم فاحتلم، ووجد نفسه في القرية، وكان أول نوم يحلم فيه عن قريته التي غادرها منذ شهرين!!!... وكان في فترة الليل وبعد العَشاء، والنوم ينكح الأجفان، فقال لنا أبي: اذهبوا وناموا مبكرين، فنحن "غدا نذهب إلى الحقول" في وقت مبكر!!!... غدا عندنا أعمال كثيرة... أرض نحرثها، وبذر نزرعها، وحصيلة نحصدها، ولذلك أرجوكم أن تناموا مبكرين لتستيقظوا مبكرين!!!... سمع أخي (أحمد) ما قاله أبوه، ولم يستطع أن يحتمل الموقف، وكان قلبه يكره ما يسمع، وظل يردد في نومه، كيف "غدا نذهب إلى الحقول!! كيف غدا نذهب إلى الحقول!!! وردده حتى في اليقظة وهو ينام بصوت عال مرتفع، كيف غدا نذهب إلى الحقوووووووووول!!! سمع خالي صوته فأتاه وأدركه نائما يكرر هذا الكلام كيف "غدا نذهب إلى الحقول"، فأيقظه خالي، وسأله عما به، وقص عليه القصص وقال: إنني كنت أحلم أنني في القرية، وعندما تعرت الشمس قال لنا أبي "غدا نذهب إلى الحقول"، وكرهتُ أن أقذف في النار بعدما قد أنقذني الله منها!!! فضحك عليه خالي، وأصبح يمزح به ويقول: "غدا نذهب إلى الحقووووول.

الكاتب/
 أ.عبد الكريم إسماعيل ماكنجوأولا (المحلي)
جامعة الملك سعود
966502512716+

تعليقات