القائمة الرئيسية

الصفحات

حول العالم

قصة قصيرة بعنوان: " الطفل الخجول " (المحلي)

 الطفل الخجول

قصة قصيرةبعنوان:
"الطفل الخجول"

ماكنجوأولا
   في بيت من البيوت القديمة طفل صغير ذكي، يمضي في سبيله بالسكينة والوقار، لا يطمع في غير مطمع، وقلبه مملوء بالسعادة، يأخذ حذره من كل أمر يلحق به ضررا، يتفق مظهره مع مخبره، وهو الوحيد من بين إخوته تربى في أحضان أبويه، والباقون من إخوته يسكنون عند أحد معارف أبيهم الذي كان مديرا لإحدى المدارس الثانوية الخاصة، يتكفل بتربيتهم ... يتولى رعايتهم ... يتحمل مصاريفهم الدراسية ... وكم أبدى الطفل رغبته في الالتحاق بإخوته في مسكنهم ومدرستهم، ولكن أباه حال بينه وبينهم ... وكم رمى إلى ذلك بالتعريض ... ويقابل أبوه تعريضه بالتقويض، ولم ينفعه عنده كل محاولاته .. قضي الأمر وتم وانتهى أصلا!..  
وذات يوم حاول الطفل الاقتراب من أبيه، ووقف أمامه يرتجف من الخوف، وارتاد منه أن يسجله في مدرسة مالم (عيسى)، وهي مدرسة تجمع بين الدراسة العربية والإنجلزية (مزدوجة) ... غير أنه لحقه الفشل، فلم يتسق له مراده، ولم يستوِ له أمره؛ فقد تركه أبوه واقفا ومضى في سبيله لم يُلق لكلامه بالا .. ولم يكترث لحاله .. تأفف الطفل متذمرا!.. ودخل غرفته واستلقى، ثم تنفس الصعداء.. همممممم !.. حقا! يعيش بين عسى ولعلّ .. بين اليأس والرجاء، اليأس الكامل لم يحدث، ولا الرجاء الكامل استقر .. لا من بعيد ولا من قريب. فيا ليت الذي كان لم يكن!... فقدْ فقدَ الطفل أمله في نفسه، وفقدَ من أبيه يدا .. ولكن تم تسجيله بعد أيام في إحدى المدارس العربية، تدرس فيها الدراسة العربية الصرفة ..
مضت أيام .. وفي نفس الطفل شيء كبير من الحزن، وجلس يوما بعد صلاة العصر يقارن بين..
..مضت أيام .. وفي نفس الطفل شيء كبير من الحزن، وجلس يوما بعد صلاة العصر يقارن بين أمه وأبيه من ناحية المعاملة، وشتّان ما أبوه وأمه!.. وجد في قرارة نفسه ثقة بالله في أمه أكثر وأكثر، ولمَ لا؟؛ وهي الوحيدة التي تحاول أن تخلع هذا الشعور عنه وتنزع منه الأسى، وقد خلت به يوما وأكدت له أن أباه هو أبوه البيولوجي، وليس كارها له، بل إنه يكن له حبا مثل بقية إخوته .. حاولت أمه أن يقنعه بوسائل شتى ممكنة، ولكنه لم يقبل من أمه عذرا، ومضى يسألها: إذا كان الأمر كذلك يا أماه، فلماذا يعاملني بشدة وعنف، ويُريني نجوم الظهر أو يكاد؟ وليس بمثل الرفق الذي يعامل به إخوتي كلما أتوا إلينا زائرين في العطلة؟ فأجابته أمه قائلة: ليس الأمر كما تظن يا ولدي، وعساك أن تفهم هذا الأمر جيدا مع الوقت، والله من وراء القصد!. ولم تزد أمه على هذا الكلام.

ويوما من الأيام انهمك الطفل في ترتيب الأثث المنزلية وتنظيمها بتكليف من أمه، فوقع بصره فجأة على أقمشة جديدة في دولاب أمه، والعيد يدق الباب في هذا الوقت، سُر الطفل بما رأى ظنا منه أن الأقمشة له ولإخوته لمناسبة العيد ... غير أن للأقمشة قصة أغرب من خيال الطفل!... قصة ما أشبهها بسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء! .. فقد عاد إلى الدولاب بعد يومين ليستشف الأقمشة، ولكنه - وللأسف المرير - لم يجد ما يشبهها، واختمر في ذهنه أنها ربما قدمت للخياط، وأنه سيؤمر بالذهاب إليه لأخذ مقاسه .. مضت أيام .. لم يعرف عن مصير الأقمشة شيئا .. ولم يسمع شيئا من أحد حتى بزغ فجر يوم العيد .. ! فتغيرت الأشياء عن أوضاعها للطفل .. ولم تعد الأرض هي الأرض ولا السماء!...

كتم الطفل هذا الأمر في نفسه ولم يبده لأحد، ولم يفه ببيضاء ولا سوداء .. ولكنه أصبح بدون أمل .. وكأنه لم يكن له أمل على الإطلاق! .. وزاد الطين بلة تجاهل أبويه بما يحدث، وازداد الطفل خجلا في نفسه، وظل غريبا في أهله .. وهذا أمر في غاية الغرابة! .. لا يقدر على تغيير أي شيئ مما يحصل له .. لم يقدر على أن يعذر أبويه ... وليس اهتمامهما بالإخوة الساكنين في ..

لم يقدر على أن يعذر أبويه ... وليس اهتمامهما بالإخوة الساكنين في حجر صديقه إلا عن قرار اتخذاه؛ فقد كان يتكفل بالكثير والكثير من مصاريفهم اليومية والدراسية، وما أرادا إلا التخفيف عنه بما استطاعا، ولم يكف ما لديهما من المال لشراء قماش الطفل، وهل هما - في الحقيقة - معذوران؟ ومن يقنع الطفل بعذرهما وهو أصغر الأولاد الذي يستحق من الاهتمام أكثره ومن الإحسان أكبره وأوفره؟!!! 
وفي يوم العيد، اكتسى الطفل ثوبا من ملابسه القديمة .. وحذاؤه الذي اشتُري له في العام الماضي قد أصبح ضيقا .. فانتعل نعلا له وقد تملكه الخجل .. وبينما هو في هذا الحال، سمع طرق الباب .. وذهب ليعرف من بالباب، فإذا هم إخوته جاؤوا إلى منزلهم ليتعيدوا مع أسرتهم، وكان ذلك قبيل صلاة العيد، ويلبسون قميصا من تلك الأقمشة التي رآها الطفل يومئذ، وأحذيتهم يقرع الأسماع صوتها .. كو .. كو .. كو ..! أدى ذلك بالطفل إلى أن يمسك بغضا في قلبه لإخوته .. وما أبغض الموقف صراحة! .. خرجوا جميعا لأداء صلاة العيد في أزيائهم الموحدة الجديدة، إلا هذا الطفل الذي يختلف زيه عن أزياء إخوته، زيه متواضع لا بأس به غير أنه ليس جديدا تماما .. وعند العودة إلى البيت من المصلى، أخذ الطفل طريقا مغايرا؛ فقد كان مملوءا بالخجل والشعور بالدونية  وانخفاض المنزلة .. مناجاة ربه مبتهلا ومتضرعا... أصبح ينظر إلى الحياة بمنظار أسود، وكأن السماء قد تطبقت على الأرض... لا يكاد يفرق بين سواد الليل وبياض النهار... وهو ذبيح الأمل ... سفيه الحلم ... ولمَ لا؟ وما له عن صرف القضاء متسع .. أصبح مرسلَ النفس ... كأنه بين سمع الأرض وبصرها .. ضعيفا أمام الأمر الواقع .. جدَّ ضعيف!. ولم تمض ساعة حتى اقترب منه أحد المشاة وسأله عن سبب انكماشه وتفرده بالبكاء، قصد الطفل أن يتكلم، وتتحرك شفتاه من القول، غير أنه لم يجد إلا الدموع التي تسيل من عينيه وتبلل ثوبه، ورفع رأسه ينظر سائله في وجهه، وفي النهاية قص له قصة حياته .. شاطره هذا الرجل شعوره وشاركه 

..ورفع رأسه ينظر سائله في وجهه، وفي النهاية قص له قصة حياته .. شاطره هذا الرجل شعوره وشاركه في حزنه، وأدرك حاجته ومآربه، وعلم أن الثوب الجديد في يوم العيد عند الأطفال أهم من أي شيء آخر، واعتبار مسيطر على كل الاعتبارات الأخرى ..
أخرج الرجل من جيبه مبلغا من المال مد به يده إلى الطفل  كالمساعدة الأولية، واستغرب حين رفض الطفل عطاءه، وانتظر الرجل برهة يتأمل الطفل في وجهه من تصرفه العجيب، فقال للرجل: أنا في غنى عن المال! .. ولا رغبة لي في أي شيئ سوى إيجاد الحل لهذ الصراع الذي يعصرني بقوة في داخلي!... غدا الرجل باردا، وازداد الطفل حظوة عنده، فقال في نفسه: لن يسامحني الله إن لم أساعد هذا الطفل، فاقترب منه أكثر .. وقام معه إلى منزله، ولما وصلا هاجم الأب الطفل، ولولا أنه جاء معه شخص مجهول لديه لضربه كالعادة، ولكن هدأه الرجل وطلب منه بعض الوقت ليتكلم معه عن ابنه، وانتهى في حديثه معه إلى نقطة هي أنه سيتولى رعاية الطفل ويتحمل مسؤوليته ورسومات الدراسة إلى أي مرحلة يريد اجتيازها، وليختر المدرسة التي يريدها لنفسه دون أدنى تردد، ثم كلف نفسه خدمة أهله، وأزلف مكان الطفل، وألطف محله، ورفع منزلته، واستوزره لنفسه .. وما لبث أن سمع الأب هذا حتى بدأ يقول سامحني الله! سامحني الله!! وكرره ثلاثا وأردفه بعبرة حارة في مقلتيه، فسر الطفل بما حصل .. وعاد الأمل إلى قلبه، وشكر الأب الرجل، وامتلأت قلوبهم فرحا، وأصبح الرجل منذ ذلك اليوم ركنا من أركان الأسرة وفردا مهما من أفرادها!..
للكاتب/
عبد الكريم إسماعيل ماكنجوأولا
(المحلي)
جامعة الملك سعود. 

تعليقات

تعليقان (2)
إرسال تعليق
  1. قصة أرجو أن تنال إعجاب القراء الأعزاء

    ردحذف
  2. ما شاء الله.. القصة مشوقة والتنسيق جيد،، نشجعك على مواصلة الكتابة فهذه البدايات تبشر بموهبة تستحق المواصلة في هذا المجال... هذا ما بدا لي.

    ردحذف

إرسال تعليق

شكرا على تعليقك